بين تحويل النزاع وتحويل الثورة في مصر

الصورة الكبيرة لتحويل النزاعات - جون بول ليديراخ

الصورة الكبيرة لتحويل النزاعات – جون بول ليديراخ

النص الأصلي والكامل للمقال المنشور في جريدة السفير العربي تحت عنوان “الثورة المصرية: رصد لصيرورة” بتاريخ 4 سبتمبر 2013 على الرابط

http://arabi.assafir.com/article.asp?aid=1178&refsite=arabi&reftype=home&refzone=slider

إسماعيل الإسكندراني

لمعالجة النزاعات ثلاثة مناهج؛ وهي: إدارة النزاع، وحل النزاع، وتحويل النزاع. فحين يصير نشوب النزاع حتمياً، أو حين يكون قائماً بالفعل دون إمكانية لعلاجه أو التقليل منه، تبرز أهمية “إدارة النزاع” عن طريق احتوائه بحيث لا يتفاقم نوعياً أو من حيث الامتداد الجغرافي، مع التسليم بأنه قائم أو حتمي الوقوع. أما “حل النزاعات” فيهدف إلى صرف الأطراف المتنازعة عن الحلول الصفْرية إلى حالة من المكاسب المشتركة/المتوازية، وهنا تكتسب الوساطة والمفاوضات أهمية قصوى من أجل الوصول إلى تفاهمات وحلول وسط مقبولة من الطرفين/الأطراف. إلا أن مقولة “السلام لا يعني عدم وجود حرب” تخبرنا أن “حل النزاع” ليس الحل. فنشوب النزاع ليس مرتبطاً بموقع كل طرف فيه بقدر ما هو أكثر التصاقاً بعلاقة الأطراف ببعضها، وصراع المصالح، والخطاب المتبادل بينها. وقد تضطرُ المعالجات الأعمق لما وراء لحظات تجلي النزاع ظاهرياً الأطرافَ الساعية إلى “تحويل النزاع“، أي إحداث تغيير هيكلي في بنية المجتمع/البيئة المحيطة بالنزاع في سبيل القضاء على مسببات النزاع وتجريف تربته. لذا فإن “تحويل النزاع” لا يهدف إلى الوصول لحالة من السلام الاستاتيكي البارد أو تقليل التعامل بين أطراف النزاع، بل على العكس يهدف لتحويل مسار العلاقة ديناميكياً بشكل نشط بحيث يكون المنتوج سلمياً.

وبالاقتراب من حالة الثورة المصرية، فإن ثورة الخامس والعشرين ومن يناير تعد، من ناحية أو أخرى، صراعاً بين جموع الثوار وقيمهم وتصوراتهم للدولة والمجتمع وبين الدولة والمجتمع القديميْن البالييْن. مجتمع قديم، وفق تعبير الصديق الباحث علي الرجال، له مكوناته السياسية والاقتصادية والدينية، ومجتمع جنين تتمخض عنه الموجات الثورية المتعاقبة بمنظومة قيمية مختلفة وتصورات مغايرة  عن السلطة والثورة وتوزيعاتهما. تفجر النزاع بقرار الجماهير الثائرة عدم التفريط في حقوقهم في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية، وقد فات الأوان على مبارك وعصبته أن يديروا نزاع الثورة أو يحتووا مطالبها بعد أن تباطأ في الاستجابة وزاد منه الصلف والاستعلاء. وبعدها فشل المجلس العسكري، القرص الصلب في دولة العسكر منذ انقلاب/ثورة يوليو/تموز 1952، في التفاوض مع الحراك الثوري، فتورط في مزيد من الدماء، وعجز عن تسيير الأمور المعيشية والحياتية، فلم يكن بين المجتمعين من حل للنزاع الثوري. انطلقت الموجتان الثوريتان التاليتان لموجة الثمانية عشر يوماً الأولى (25 يناير/كانون الثاني – 11 فبراير/شباط 2011) في أحداث شارع محمد محمود واعتصام مجلس الوزراء (نوفمبر/تشرين الثاني – ديسمبر/كانون الأول 2011)، ثم احتجاجاً على تطلع الرئيس المعزول محمد مرسي لتأسيس سلطوية متدثرة بخطاب ديني في إعلانه الدستوري في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 وما تلاه من أحداث في محيط قصر الاتحادية حتى الذكرى الثانية للثورة في يناير/كانون الثاني 2013. ولم تمر أية موجة من هذه الثلاث دون دماء تؤكد استمرار النزاع بين المجتمع القديم والمجتمع الجنين، بل تزيد في عمقه وتقوّي النزعة للتحرر من العلاقات القديمة وممارسات السلطة البالية، فأمسى كل من إدارة الثورة/النزاع أو حل النزاع القائم بين المجتمع القديم والمجتمع الجنين الثائر أطروحتين متهافتتين، وصار واضحاً لما تبقى من أبنية سلطة متماسكة من مؤسسات الدولة القديمة أن مواجهة الثورة أو التفاوض معها قد ولّى أوانه ولم يعد مجال سوى لتغيير جذري/ثوري مضاد في مضمون العلاقات والبنى والخطاب والبيئة، أي “تحويل الثورة / النزاع”.

فرضت ممارسات الإخوان حقيقة مفادها أن سلطتهم لم تكن سوى الوجه الآخر لسلطة مبارك والمجلس العسكري. فالتعطش للهيمنة، والممارسات السلطوية القمعية، والرغبة في مصادرة المجال العام، والنزعة لضبط السلوك الفردي للمواطنين، والإشراف على ما يعتنقونه من معتقدات وما يتبنونه من أفكار، والنص على الوصاية العسكرية على السلطة المدنية المنتخبة دستورياً وقانونياً، وغيرها، كانت من السمات المشتركة بين وجهي عملة واحدة اسمها المجتمع القديم. وحين تأزم المشهد السياسي والاجتماعي بسبب الأداء المتردد والمداهن من قبل سلطة الإخوان، وعلى رأسها المعزول محمد مرسي، لمراكز القوى في هياكل سلطة المجتمع القديم وبــِناه البيروقراطية والعسكرية والأمنية والقضائية، فإن الأطراف الثورية قد اضطرت لمناقضة نفسها. فبعد أن كان مطلب الثوار عزل النائب العام، بل محاسبته أيضاً، وجدوا أنفسهم في موضع المعارضة الآلية التي عزله بها محمد مرسي. وتحول هتاف الثوار المطالب بتطهير القضاء إلى تمجيدٍ لنزاهة القضاء المصري وشموخه.

في هذه الأثناء، اجتهد من حاولوا التحرر من الاستقطاب الأيديولوجي والهوياتي في إطلاق بعض المبادرات الفكرية والاجتماعية والسياسية، بعضها معلن عنه والبعض غير معلن، بعضها عاجل وبعضها طويل الأجل، تهدف كلها إلى ما يمكن أن نسميه تحويلاً للنزاع الثوري مع المجتمع القديم بما يضمن انتصار المضمون الثوري ومراد المجتمع الجنين.

 

حلم ينتهي بكابوس

 كان الحلم يقضي بأن تتم استعادة الحشد الجماهيري السائل، المستعصي على استيعاب المؤسسات البالية والتنظيمات الهرمية، فيضغط على السلطة ويفرض إرادة الجماهير، جنباً إلى جنب مع بناء كيانات مدنية قوية – أحزاباً ومؤسسات – تحمل قيم الثورة ومطالبها العليا، والانصراف إلى بناء كوادر شابة تنافس في الانتخابات البرلمانية والمحلية المقبلة، مع دعم انخراط الكفاءات الثورية في الدولاب البيروقراطي للدولة العتيقة، على أن يكون هذا بالتوازي مع المعارك التشريعية الضامنة لحماية البيئة القانونية المحيطة بالنضالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وبالتوازي، صبّ بعض الفاعلين الثوريين اهتمامهم على التشبيك الأفقي المتجاوز للاختلافات المهنية والعمرية والجغرافية، طامحين في تغيير العلاقات والخطاب المتبادل، آملين في تغيير ما يمكن تغييره من بنى وهياكل في السلطة والمؤسسات الاقتصادية. وكان الرجاء أن تلتقي المكونات الاجتماعية المختلفة والمجتمعات المحلية المتنوعة في حوار متعدد الأشكال والفاعليات يهدف إلى تقويم طريقة نظر كل طرف إلى مصالحه وفرصه وتهديداته، لإعادة صياغة الأولويات الخاصة والعامة، ومحاولة ترتيب الأجندة.

انطلقت الدعوات إلى موجة ثورية رابعة للتمرد على سلطة الإخوان ممثلة برئيس الجمهورية، والمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة، كرفض قاطع لنية الإسلاميين الاستمرار في الحكم وتطبيق مشروعهم المزعوم. وكانت حركة “تمرد” في بدايتها باستمارتها التي حازت ملايين التوقيعات أداة من أدوات تحويل حفلات العنف الأسبوعي وحرق مقرات الإخوان عصر كل جمعة إلى وسيلة احتجاج سلمي وحشد متصاعد تدريجياً ضد سلطة الإخوان وسلطويتهم. لكن آلياتٍ جبارة كانت تسعى لما هو أعمق من تحويل العنف الظاهر إلى سلم سياسي. فقد سحب البساط من تحت أقدام ثورة يناير التي اندلعت في يوم عيد الشرطة احتجاجاً على القمع والتنكيل والمهانة، ثم اندلعت الموجة الثانية منها مطالبة بإسقاط حكم العسكر، وإذا بهتاف “جيش وشرطة وشعب إيد واحدة” يعلو في سماء مصر في 30 يونيو/حزيران وما تلاه، بعد أن كان الهتاف الثوري “الداخلية بلطجية” و”يسقط حكم العسكر”. وإذا بضباط الشرطة يُحمَلون فوق الأكتاف وتعزف فرقة الشرطة الموسيقية ألحانها على منصة ميدان التحرير في الذكرى الحادية والستين لانقلاب يوليو/تموز 1952، ولا عزاء للقصاص والتطهير ودماء الشهداء. لا أميل للركون إلى التفسيرات التآمرية الاختزالية، لكن استبعادها بالكلية ما هو إلا اختزال مضاد. فإذا كان هتاف “الجيش والشعب إيد واحدة” قد انطلق من الشؤون المعنوية للقوات المسلحة وهتف به أفراد التحريات العسكرية فوق الدبابات مع بداية حظر التجوال في الثامن والعشرين من يناير /كانون الثاني 2011، فإن صنع هتافات تذيب الفوارق بين المجتمع الجنين ودولة المجتمع القديم لا يمكن أن نستبعد علاقته بالأجهزة الاستخباراتية.

وبتجاوز مشهد الحشود والتباساته، نجد أن خطاب العدالة الاجتماعية والحرية يكاد يختفي، بل يُهاجم من رفعوه ابتداءً، وسط صرخات الحرب على الإرهاب. وبعد أن تجاهلت ثورة يناير كافة الأطراف الخارجية فلم تكترث بها ولم تهتف ضدها، نرى الآن إقحاماً لأطراف خارجية في المشهد الداخلي بادعاءات واتهامات بالتآمر والضلوع بأدوار أكبر بكثير مما يمكن لهذه الأطراف أن تقوم به. أما ثورة الجماهير الغفيرة التي لم يكن لها قائد ولا زعيم بدأت تتوارى أمام صور وزير الدفاع الذي يجري “تزعيمه”. والخطاب الرسمي بدأ يتجاهل ثورة 25 يناير مثنياً على ما يسميه ثورة 30 يونيو، بالتوازي مع تخوين ثوار يناير وتكفيرهم وطنياً بشكل غير رسمي وتصوير “أحداث يناير” كمؤامرة إخوانية للقفز على الحكم.

 

تحويل الثورة

كان عدو الثورة الأول هو القمع والسلطوية فإذا به يتحول إلى الإخوان وتيار الإسلام السياسي ودوائر المتعاطفين معهم أو المشابهين لهم في الهيئة الخارجية والملبس. وكان محرك الثورة هو الكرامة والإصرار على القصاص، فصار الخوف من “الإرهاب المحتمل”، وفق تعبير وزير الدفاع في خطاب التفويض الشهير. كانت الشرطة التي لم يدركها التطهير ولا الإصلاح غريمَ الثورة الأول، فإذا بالرئيس الإخواني المعزول يجعلها “في قلب الثورة”، وفق تعبيره، و”يحتضنها الشعب” في ثورة 30 يونيو، وفق تعبيره وزير الداخلية. ضاعت كثير من مكتسبات ثورة يناير وحقوق ثوارها بسبب الحرص على المسار القانوني بكل عقمه وإشكالياته الهيكلية والإجرائية، وزهد الثوار في المحاكمات الثورية والاستثنائية حرصاً على بعض الموازنات الخارجية، ثم إذا بالزعيم العسكري يطلب من الجماهير أمراً ليس له أي توصيف قانوني، أسماه “تفويضاً”، لمواجهة شيء بلا تعريف، أسماه “الإرهاب المحتمل”.

يقول الإخوان ومناصروهم إن ما حدث هو انقلاب عسكري على حكم الرئيس المدني المنتخب. لكني أراه احتواءً للموجة الثورية الرابعة في 30 يونيو/حزيران 2013 والقفز عليه بانقلاب عسكري في 3 يوليو/تموز. فالأكيد أن الجماهير التي استجابت لدعوة حركة “تمرد” ووقعت على استمارتها/وثيقتها بالملايين لم يكن في نص ما احتشدت من أجله العزل الفوري لمحمد مرسي، ولا احتجازه بشكل غير قانوني في مكان سري، ولا تعطيل الدستور المستفتى عليه شعبياً، ولا حل مجلس الشورى، ولا إغلاق القنوات والصحف المحسوبة على التيار الإسلامي. المطلب الذي انتفضت الجماهير من أجله في 30 يونيو/حزيران قد تم إلقاؤه في ذيل خريطة الطريق التي فرضها القائد العام للقوات المسلحة دون وجود أفق لتغيير الخريطة المدعومة بشرعية الطائرات المقاتلة، تلك التي ترسم القلوب فوق رؤوس مؤيدي العسكر وتنثر المنشورات التحذيرية فوق رؤوس مؤيدي عودة المعزول، قبل أن تشارك شقيقاتها المروحية في قتل المعتصمين والمتظاهرين.

التغيير كدائرة - جون بول ليديراخ

التغيير كدائرة – جون بول ليديراخ

المشهد السياسي غير مبشر، ومشكلته أعمق مما تبدو على السطح. فالأزمة سوسيولوجية خطيرة متعلقة بتحويل ثورة يناير إلى ثورة يونيو، مما ينتج خطاباً مختلفاً جذرياً عن الخطاب الثوري المعهود، ويعيد تشكيل العلاقات هيكلياً وزمنياً لما قبل ثورة يناير مضافاً إليها الدعم الشعبي، ويستدعي شبكات المصالح وتحالفاتها القديمة مع رغبة عارمة في الشماتة والتشفي وتأكيد التمكن من رقبة يناير للإجهاز عليها. وأخيراً، يعاد كتابة الدستور من قبل لجنة غير ممثلة للشعب لخلق بنية تشريعية وقانونية جديدة/قديمة تحكم وتؤكد تحويل مسار ثورة يناير جذرياً إلى ما يمكن أن يكون امتداداً لما قبل يناير/كانون الثاني 2011. لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، وقد ينتقل مبارك بضعة عشر كيلومتراً من مستشفى سجن طرة إلى مستشفى القوات المسلحة على كورنيش المعادي، لكن عمر سليمان لن يعود من الدار الآخرة، ومجلس طنطاوي العسكري لن يعود للحكم، وعلاقة الشرطة بالشعب لن تعود كما كانت، لكنها قد تكون أسوأ. الأسوأ من القمع أحادي الجانب هو الصفقة الضمنية، أو لربما الصريحة، على علاقة تواطؤ بين الشرطة وبعض الفئات الشعبية من البلطجية أو الأكثر قدرة جسدية على الاشتباك وتكوين شبكات سلطة جديدة لا يخشى فيها المدنيون أقساماً سبق أن أحرقوها، أو ضباطاً لم يتغير سلوكهم المنحرف أو يعاقبوا على جرائمهم وقد سبق أن كسروا شوكتهم وأذلوا كبرياءهم.

التحدي الآن ليس في منع الماضي من القفز إلى المستقبل، لأنه لن يحدث، بل في منع تحويل ثورة يناير وحلمها النقي في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية إلى ماضٍ راحل. تحويل الثورة بثورة مضادة ليس محصناً ضد التحويل العكسي، وكي تعود مياه ثورة يناير إلى مجاريها فإن إرادة جمعية قاهرة يجب أن تحتشد، وقد يكون مفتاحها بيد غباء تحالف 3 يوليو الحاكم وسلطويته وفشله الاقتصادي.

أضف تعليق