خرتيت أسطوري في المدينة

30 جانفي, 2014

ثورة الفلاحين؟

مقال في الاجتماع الحضري السياسي منشور على موقع “قُــلْ” بتاريخ 13 يناير 2014 رداً على مقال سابق على الموقع ذاته بعنوان “فيل ضخم في الغرفة”

كتب: إسماعيل الإسكندراني*

تمايز الريف المصري عن المدن الكبرى في طبيعة المساحات التي اعتبرت مجالاً عاماً يجتمع فيه الناس للمشاركة في الشؤون العامة المحلية والوطنية. لم يعرف الريف، عدا القرى النوبية، الصالونات الثقافية أو المنتديات الفكرية في أماكن ذات ملكية عامة أو استخدام جماهيري، لكن قام “الدوّار” و”المندرة” و”الزوايا الصوفية” بأدوار مشابهة تقريباً وإن اتسمت بالخصوصية المحلية في اختيار الموضوعات وطرق تناولها، مع تبعيتها لأفراد أو عائلات أو وجهاء قبائل أو مشايخ. وبالتزامن مع التضييق السياسي على المجال العام في الريف، وبالأخص في دور العبادة، التي تعد من أهم الملتقيات العمومية، ضاق الفضاء العمراني بالزحف الأسمنتي على كل من الأراضي الزراعية والبور، ما أحكم الحصار الفراغي على المجتمعات الريفية في مصر.

على مستوى الوحدة الواحدة، طرأت تحولات كثيرة على الأنماط المعمارية في منازل العائلات الممتدة في الريف المصري. لعل أهمها هو التحول من التوسع الأفقي في الغرف المتجاورة، التي كانت تقطنها الأسر الشقيقة داخل البيت الواحد الفسيح، إلى التوسع الرأسي بالبناء الخرساني، حيث استقلت كل أسرة في شقة أو طابق، دون أن ينفرط عقد العائلة الممتدة خارج المنزل الكبير. فهل كان للاستقلال النسبي والخصوصية العالية نسبياً التي حققتها هذه النقلة المعمارية أثر في استقلال الإرادة السياسية للأفراد عن كبير/ة العائلة؟ هل أسهمت التغيرات المعمارية، وما رافقها من طفرة في استخدام تقنيات الاتصال الحديثة، في تغيير أنماط المشاركة السياسية؟

 

“فيل ضخم في الغرفة”

الأفكار والتساؤلات المطروحة في الفقرتين السابقتين كان من المتوقع أن يجد القاريء اشتباكاً معها أو معالجة لبعضها في مقالٍ كتبه “معماري” للمقارنة بين الريف والحضر لتحليل المفارقة بين مشاركتهما وخياراتهما السياسية. لكن المقال الذي نشر على موقع “قُلْ” بعنوان “فيل ضخم في الغرفةخيب التوقعات كلها، ولم يحوِ سوى نص ركيك –في رأيي- للتفاضل الجهوي المفرط في التعالي الحضري على الريف. فعوضاً عن أن يحدثنا كاتبه المعماري عن اختلاف أنماط الضبط الاجتماعي controlوالمراقبة السياسية surveillanceبين الريف والحضر من منظور عمراني وتخطيطي، راح يضع الوسوم على الحضر والريف، باعتبار الأول حاملاً شعلة المشروع الوطني التحديثي، والثاني وكراً للإسلاموية المقترنة بالرجعية، لا مجرد المحافظة.

إن اختزال مشهد 30 يونيو تحديداً بأنه ثورة مدينية على التيار الإسلاموي الريفي، أو المتريّف، فيه من المغالطات والقصور ومحدودية أفق التحليل ما يكفي للرد عليه في عدة مقالات. لكن النقطة المرجعية التي سأنطلق منها لمقارنة المشاركة والاختيار السياسي بين الريف والحضر هي (25 يناير – 11 فبراير)، أو الثمانية عشر يوماً المؤسِّسة للقطيعة مع عصر مبارك.

أغفل المقال المذكور، عن جهل أو تجاهل، دور الريف المصري في ثورة 1919 مصرّاً على تأصيل المفاضلة الجهوية تاريخياً، لكنه محق بنسبة كبيرة في تمحوره حول مدينية ثورة يناير. الراجح أن الريف لم يثر على نظام مبارك لطبيعة العلاقة الزبائنية بين شبكات فساد الحزب الوطني وبين ذوي النفوذ في المجتمعات الريفية المحلية، حيث استفادت السلطة من النظام الأبوي السائد في الريف، فاعتمدت على عدد محدود نسبياً من ذوي التأثير النافذ هيراركياً لممارسة الضبط وتحجيم المشاركة الثورية في الثمانية عشر يوماً الأولى. الإشكالية التي يقع فيها المقال المشار إليه هي موقف كاتبه من ثورة يناير ابتداءً؛ هل كانت ثورة استفاد منها الإسلاميون الريفيون – على حد وصف المقال – أم كانت ثورة مدينية معادية للإسلاميين؟ أم أنها لم تكن ثورة من الأساس وكانت مجرد “أحداث”؟!

 

من الذي ثار في المدن؟

المغالطة الثانية هي إصرار المقال على صهر التنوع الذي شهده الحدث الثوري في القالب الحضري، مغفلاً أو متغافلاً عن نزوح كثير من الثوار من محافظاتهم الريفية للمشاركة في قلب الحدث الثوري. الحقيقة أن كثيراً من الصحفيين والباحثين والكتّاب لم يتحرروا من أسر المركزية المتطرفة التي اختزلت الثورة في ميدان التحرير ولم تر خارجه سوى الإسكندرية والسويس، على أحسن تقدير. صنع الإعلام هذا الوعي المركزي المبتسر، ولعله كان معذوراً جزئياً لأسباب أمنية ومالية في حينها، لكني لا أجد عذراً لمن يتجرأ على تحليل المشاركة الثورية على المستوى الوطني دون أن يخرج عن دائرة التركيز التقليدية. هذه المركزية المفرطة، المرتبطة حتماً بمركزية صنع القرار السياسي في العاصمة، حملت كثيراً من ثوار الإسكندرية على مفارقة حراكنا اليومي في الموجة الثورية الأولى والانضمام إلى ميدان التحرير ذي التأثير المباشر على النظام المركزي، وذلك على الرغم من كون الإسكندرية العاصمة الثانية الحاضنة لمقر قيادة المنطقة الشمالية العسكرية ومقر قيادة القوات البحرية، وكونها ذات تغطية إعلامية عالمية جيدة. فأين ينبغي لابن ريف الدلتا أو الصعيد أن يشارك إذا أراد لصوته أن يكون مسموعاً ومؤثراً؟!

هل يجرؤ أحد أن يزعم أن ميدان التحرير لم يضم سوى ثوار الحضر؟ أم أننا سنعود لنسأل كاتب المقال المذكور عن موقفه من 25 يناير، كانت ثورة أم أحداثاً؟

دفاعاً عن حراك سكان جزيرة الزمالك ضد موقع إنشاء محطة مترو الأنفاق، يطالب بعض النشطاء والكتّاب ألا يُعاقب أهل الزمالك معنوياً بسبب انحياز السلطة وانتقائها لمن تستجيب لضغطهم، فهم ليسوا مسؤولين عن معاداة السلطة للفقراء. التناقض هنا أن نؤيد هذه الحجة ونستبيح معاقبة أهل الريف عموماً، وأهل الجنوب خصوصاً، على وضعهم خارج دائرة التأثير على مجريات الأمور بسبب سياسات المركزية المفرطة وتهميش الريف والجنوب التي انتهجتها ورسختها دولة عسكر يوليو. التجبر والصلف هو تذكية انسحابهم وإحساسهم بالدونية المواطنية بالخطاب المتعالي عليهم، الناكر لهوياتهم الريفية الفرعية إذا انضموا إلى الحراك في قلب المشهد الثوري الوطني المركزي.

قاوم الصعايدة هذا التهميش الثوري المتعمد، عن وعي أو بلا وعي، ودشنوا صفحة على موقع “فيسبوك” بعنوان “الصعيد .. ثورة على الهامش“. أملوا من خلالها أن يوثقوا مشاركتهم في الموجة الثورية الأولى في عدة مدن جنوبية؛ منها أسوان والأقصر ونجع حمادي وسوهاج وجرجا وأسيوط والمنيا. وكتبتُ مقالاً تحليلياً في محاولة منحازة لإنصاف الجنوب بعنوان “الثأر والثورة: لماذا يثور الشمال ولا يفعلها الجنوب؟“، عالجت فيه أيضاً العوار الشديد في ثنائية الريف-الحضر التي تغفل تماماً أن في مصر مساحة اجتماعية أخرى مهمة اسمها “البادية”. فقد كانت الثورة في المدن كلها سلمية، بما في ذلك مدينة العريش عاصمة شمال سيناء، في حين ثارت المنطقة الحدودية البدوية في مدينتي “الشيخ زويد” و”رفح” بالكلاشينكوف ومضادات الدبابات ومضادات الطائرات، وذلك لأسباب ثأرية وانتقامية ضد جهاز الشرطة ذي السجل الإجرامي الحافل.

التسامح مع التعصب الحضري ضد الريف يفتح الباب إلى زحف المفاضلة الجهوية بمنحى طبقي/ثقافي فرعي داخل المدن، بين أحياء المدينة الواحدة، انطلاقاً من واقع الهجرة الريفية الداخلية إلى تخوم الحضر. هنا، يمتد التحليل في المقال المشار إليه ليلتقي مع الكتابات السياسية والأمنية التي تعتبر العشوائيات وأحياء الحضر المتريّف مستنقعاً للتطرف والجريمة والجهل والمرض والفقر. مرة أخرى، يقودنا التعالي الحضري على الريف إلى المعاقبة المعنوية والأدبية لضحايا سوء التخطيط الحكومي تنموياً وعمرانياً.

أتخيل المقال التالي للكاتب نفسه يفاضل بين أحياء القاهرة الكبرى، فينسخ الوسوم والوصمات التي أطلقها على الريف ليعيد توزيعها على إمبابة والعمرانية ودار السلام والمطرية وعين شمس، وذلك في مقابل الثناء على المعادي والزمالك والمهندسين والدقي. ولن يخذله الأرشيف الأمني والسياسي في التدليل على هذا التصنيف بشواهد من تاريخ الاعتداءات الطائفية والمؤشرات الانتخابية للميول السياسية في المناطق المذكورة وغيرها. وبكل وضوح، فإني أعلن انحيازي لثورية “ناهيا” في 25 يناير 2011 ضد فلولية “مصر الجديدة”، التي عاشت مأتماً كئيباً يوم 11 فبراير، مخالفةً بذلك المزاج العام لربوع مصر المحتفلة بخلع مبارك.

 

مشاركة الريف في 30 يونيو

انطلاقي من مرجعية 25 يناير هو وضع للأمور في نصابها الصحيح وتأكيد للمرجعية الثورية غير الأيديولوجية ضد القمع والظلم والمهانة وسياسات الإفقار والتجويع، أي الثورة من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، وليس من أجل مطالب إسلاموية أو مناهضة للإسلامويين. ذلك لا يعني التهرب من تفنيد مزاعم المقال المشار إليه حول 30 يونيو.

افترض المقال واهماً أن حراك 30 يونيو كان ثورة مدينية ضد “فِلْح” الإخوان وتحالف سلطتهم، لكن كاتبه لم يعبأ بالسؤال أو البحث عن حجم مشاركة الريف في ذلك اليوم. ولعله سيفاجأ حين يعرف أن المحافظات الريفية قد شهدت حراكاً غير مسبوق منذ ثورة 1919، حيث تحركت الحشود من القرى والنجوع والكفور إلى المدن الكبيرة وعواصم المحافظات للمشاركة في الانتفاضة ضد حكم الإخوان وأزمتي الوقود والكهرباء. فإذا كان الكاتب يقر بالتقديرات المليونية في هذا اليوم، فهل يظن حقاً أنها ملايين حضرية غير ريفية؟!

الصدمة الثانية الذي يتلقاها التحليل البرجوازي وريث النظرة الاستعمارية في المقال المشار إليه هي مشاركة الطرق الصوفية في حشد سكان الريف، وهي الجماعات المرتبطة بشدة بالأجهزة الأمنية والاستخباراتية. فإذا كانت 30 يونيو “ثورة” إيجابية ضد الإخوان وحلفائهم المتشدين، فهل سيرضى عن الريف والطرق الصوفية “السمحة” التي عاونت القوى الليبرالية وحلفاءها من أجنحة السلطة والأجهزة الأمنية في التخلص من الكابوس الإسلاموي؟ وإذا علم أن نفوذ الطرق الصوفية الداعم للدولة القديمة في ريف الصعيد والدلتا أكبر من تأثير الإسلامويين المتحالفين مع الإخوان، فهل سيراجع الأوصاف التي أطلقها على الريف، الذي لا يدرك حجم مشاركته في 30 يونيو؟ وما موقفه من حقيقة التقدم الكاسح لأحمد شفيق في محافظات الدلتا الريفية في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بما في ذلك “الدقهلية” العاصمة التمويلية للإخوان، هل خضع ريف الدلتا حقاً لنفوذ الإسلامويين الرجعيين؟

إن الجزم بأن حقيقة الصراع ما هي إلا أزمة ريفية حضرية يعد تعسفاً مبالغاً فيه وتسطيحاً لصراع مركب بالغ التعقيد سوسيولوجياً، خاصة إذا تم الخلط بين مؤشرات النتائج الانتخابية بين الريف والحضر في الغرب وبين الواقع في مصر. المزعج جداً في المقال المذكور أن يتم وضع الريف المصري في جملة واحدة مع الريف السوري في مقابل الحضر المصري، الذي يربط الكاتب بينه وبين سيطرة نفوذ النظام السوري الطائفي المجرم على بعض المدن.

المقال المشار إليه لم يكتف بالاختزال المحلي، بل قدّم محاولة لا بأس بها لـ “عولمة التسطيح”، حيث اعتبر ثنائية الريف-الحضر حقيقة عالمية تحمل الدلالات نفسها في سياق متجاوز الخصوصيات كافّة، مع جرعة مكثفة من السطحية والتعالي والوصم الفكري والاجتماعي. اختار الكاتب استعارة وجود فيل ضخم في الغرفة يتعامى عنه الجميع، لكن الأرجح هو وجود خرتيت أسطوري الحجم في أوهام الكاتب يجب إخراجه بعدد كبير من الزيارات الميدانية والمقابلات البحثية والقراءات المتعمقة قبل التنظير للتعصب الجهوي ضد “الفلاحين”.

———-

* باحث في علم الاجتماع السياسي. يعرف نفسه في هذا المقال بأنه “سكندري المولد والنشأة، قاهري الإقامة، سيناوي التخصص، منحاز لجنوب مصر”


عن مترو الزمالك .. عن كفر عبده والزعربانة

29 جانفي, 2014
من صفحة الزمالك تنتفض على موقع فيسبوك

من صفحة الزمالك تنتفض على موقع فيسبوك

مقال منشور على موقع مصر العربية بتاريخ 7 يناير 2014 على الرابط

http://goo.gl/46zEXV

كتب: إسماعيل الإسكندراني

 

بعيداً عن اختزال مشهد “انتفاضة الزمالك” ضد موقع إنشاء محطة مترو أنفاق بجزيرة النخبة في صراع بين السلطة وبين سكان لهم مطالب، تم تحويله إلى حرب دعائية سوداء عبر وسائل الإعلام الجماهيري، فإن الصراع حول محطة مترو الزمالك كاشف لكثير من المواقف المركبة التي تمخض عنها المشهد الاجتماعي السياسي عقب يناير 2011.

 

بدأ الاعتراض على الموقع الذي اختارته الهيئة الحكومية لإنشاء محطة على الخط الثالث داخل المربع السكني (شارع إسماعيل محمد)، وثار الأمر في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بأن طبقة الهوانم والباشوات ترفض وسيلة المواصلات التي ستحول جزيرتهم إلى مرتع للغلابة.

 

ليس جديداً على السلطة في مصر أن تشتبك معنوياً مع خصومها عبر دعاية غير صادقة تفتح باب المزايدة والتهكم. وليس جديداً على الأصوات الصاخبة أن تدعو عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى فاعليات استهزائية، لعل آخرها الدعوة “للتبول الجماعي” في الزمالك اعتراضاً على طبقية ساكنيها ونزعاتهم الطبقية. وكأن لا طريق ثالثاً بين نخبوية فيفي هانم وشعبوية شعبولا، وكأن الثورية مقترنة بالاندفاع العاطفي دون تقصي للحقائق والمعلومات، فتكتب المقالات على مواقع بعض المجموعات الثورية مبتسرة وناقصة.

 

(2)

 

كنا في الإسكندرية عندما نتجادل عن محددات الطبقة الاجتماعية، أي عن العناصر التي يتحدد على ضوئها موقع الفرد/الأسرة من الطبقات الاجتماعية المختلفة، يدور الحوار بنا حول التعليم والمهنة ومستوى الدخل والمكانة الاجتماعية. لم يلتفت منا أحد إلى أهمية الحي السكني كمحدد طبقي إلا صديق من عائلة ذات أصول ريفية ونشأة مدينية مزدوجة بين القاهرة والإسكندرية.

 

أزعم أن وعي الصديق علي الرجّال بهذه الزاوية الطبقية وليد منزل جده لأبيه المطل على قبة البرلمان في شارع الفلكي بوسط القاهرة، وليس وليد منزل جدته لأمه في “زيزينيا”، ولا منزل أسرته القريب من شارع سوريا في منطقة “رشدي” القريبة من البحر.

 

على عكس ما يوحي اسمها، تعد منطقة “كفر عبده” أرقى مناطق الإسكندرية بالمفهوم النخبوي. فموقع المركز الثقافي البريطاني والقليل مما تبقى من منازل الدبلوماسيين ونخبة السلطة فيها لا يزال يشهد على الزمن الذي احتلت فيه السفارات والقنصليات مواقعها في مدينة الثغر قبل أن تنتقل إلى العاصمة السياسية، وقت أن كانت مياه البحر المتوسط، لا سماؤه، هي وسيلة الاتصال الأساسية بين مصر وأوروبا. غني عن الذكر أن الإسكندرية كانت العاصمة التجارية لمصر حتى وقت غير بعيد، ولا يزال المقر الصيفي لرئاسة مجلس الوزارء في منطقة “فلمنج” شاهداً على إدارة شؤون البلاد جزئياً منه حتى آخر حكومات مبارك.

 

لا يفصل محطة “الوزارة” عن “باكوس” الشعبية سوى محطتين من الترام الأزرق، الذي يخترق شارع أبي قير ليعود منضماً إلى الخط الآخر الذي ينطلق من جوار مدرسة “كلية فيكتوريا” ملتزماً بالمرور على محطات “رمل الإسكندرية” النخبوية (السرايا أو شارع الإقبال – ثروت – لوران – سان ستيفانو – زيزينيا – الفنون الجميلة – جليم – سابا باشا – الهداية – بولكلي)، ثم ينطلقا سوياً إلى “مصطفى كامل” ليفترقا من جديد ويلتقيا عن بوابة النادي السكندري الأعرق في النخبوية “سبورتنج”، ومنه إلى “محطة الرمل”، نهاية الخط.

 

أما كفر عبده، التي لا يدخلها الترام الأزرق، أو أي من وسائل النقل العام، فلا يفصلها عن سوق “الزعربانة” سوى شارع واحد. وهو أول حدود منطقة “الظاهرية”، حيث يتضح التباين العمراني والثقافي من العنوان، “الزِعْرِبانة”!

 

لا يرى “كفر عبده” البحر، كما لم تره منطقة القصور والبيوت التراثية القديمة/البائدة في حي “محرم بك”. ولم يكن الرقي الذي وُصِفا به، أو اتصفا به فعلاً، جنباً إلى جنب مع “وابور المياه” مرتبطاً بكونهم من مناطق الترام الأزرق، فمحرم بك هي عاصمة الترام الأصفر (الشعبي)، وهي التي تتوسط “محطة مصر” و”الحضرة” و”الغيط الصعيدي” و”غيط العنب” و”ترعة المحمودية”.

 

يرى الصديق محمود العدوي، الناشط التنموي القاهري، أن أهم ما يميز الإسكندرية اجتماعياً عدم وجود فواصل طبيعية أو صناعية بين أحيائها المتفاوتة اقتصادياً وعمرانياً، فلا يوجد بالإسكندرية جزر طبقية كما في القاهرة. فحي “سموحة”، منطقة الصاعدين طبقياً المتباهين بأموالهم واستهلاكهم وعضويتهم الحديثة في ناديها، تبدأ من “عزبة سعد” ناحية “الحضرة” وتنتهي بـ “حجر النواتية”، القريبة من “أبي سليمان”. أما “جليم” فهي ملاصقة تقريباً لـ “باكوس”، و”لوران” على مرمى حجر من “الرمل الميري”. ويمكنك أن تعمم هذا على أغلب أحياء الإسكندرية الموسومة بالرقي، قبل زحف الفساد الأسمنتي.

 

(3)

 

ذات مساء ربيعي معتدل الطقس، جلسنا في “فراندا” منزل جده في الطابق السادس. كان ظهري إلى قبة البرلمان، في حين جلس صديقي بيني وبين مكتب الفقيه الدستوري الراحل، واضع دستور المملكة التونسية والحائز على الباشوية من ملكها القديم. تطاير دخان التجلّي فوق رأسه وهو يتأمل في آثار انتقال الحكم من القلعة (باب الباشا) إلى قصر عابدين في عهد الخديوي إسماعيل.

 

كادت الألوان حولنا أن تختفي لصالح الأبيض والأسود اللذيْن تسربا إلينا في مشهد ملهم لكتاب السيناريو والروائيين التاريخيين. فلم يعد صعباً علينا أن ننفصل عن واقع وسط البلد وأحيائه المحيطة في 2013 لنتخيل الفراغ الذي بُني فيه قصر عابدين ودواوين الحكومة، القائمة بمبانيها وأدوارها الوظيفية حتى الآن منذ القرن التاسع عشر، في ذلك الوقت الغابر الذي الذي استعان الخديوي فيه بجورج هاوسمان، معماري باريس الحديثة، ليؤسس حي وسط القاهرة “الأوروبي”. في هذه الفترة، بدأت الجذور الطبقية-العمرانية في التبلور، حيث احتلت طبقة الحكم مدينة الحدائق، “جاردن سيتي”، التي كانت مهجورة سكانياً (أي والله، كانت مهجورة ولم تكن في عراقة الأحياء الشعبية القديمة!)

 

لجزيرة الزمالك، جمع “زُمْلك”، أصل أقدم. يعود للباشا الألباني الأصل، مؤسس الدولة العسكرية المركزية في مصر، محمد علي. ليس المقال في مقام البحث عن معنى “الزملك” بالتركية، أو سياق إطلاق الاسم على الجزيرة التي كان لها “عُمدة” حتى وقت قريب. الأكيد أن الزمالك “جزيرة”، والراجح أن هناك من يريدها منعزلة، أو قليلة الاختلاط، قدر الإمكان.

 

(4)

 

تتيح حدود “كفر عبده”، المفتوحة على سوق “الزعربانة” من ناحية، وعلى حي “مصطفى كامل” الأقل نخبوية من الناحية الأخرى، لكل من سكانها وجيرانها حرية الانتساب لحي “الصفوة” أو التبرؤ من منطقة “الفرافير” و”الشباب السيس”، بحسب السياق. فصديقي المولود أباً عن جد في “كفر عبده” يعلن أمام أصدقائه على المقاهي الشعبية في وسط إسكندرية أنه من “مصطفى كامل”، هارباً من الصورة النمطية السائدة عن أبناء “كفر عبده”. غيره كثيرون ممن لا يكفيهم شارع “ونجد” لإشباع غرائزهم في الانتماء الطبقي النخبوي يدّعون أنهم من “كفر عبده” مراهنين على الجهل الجغرافي للمستمع بهذه المنطقة “المنفّدة على بعضها” من الداخل.

 

ابن الزمالك الثائر على نخبويتها وطبقية الكثير من قاطنيها يستطيع أن يغير من هيئة ملبسه، ونبرة صوته، ومفردات خطابه، وسلوكياته، بل منظومته القيمية بالكامل، لكنه لن يستطيع الفكاك من أسر الانتساب إلى “جزيرة الزمالك”، وما يرافقها من إدراك للذات الطبقية وللفروق بينه وبين جيرانه سكان الضفة الشرقية للنيل، “بولاق أبو العلا”. لن يمكنه التحرر من الصور النمطية السائدة – سواء كانت إيجابية أم سلبية – لدى المستمع حين يعرف أن صاحبنا مولود في الزمالك لأسرة لا تعمل في الخدمة، بل لديها من يخدمها – غالباً. فلا فكاك، إذن، من “هوية طبقية”.

 

قبل إنشاء جامعة “فاروس” الخاصة، لم يكن في الإسكندرية سوى جامعة واحدة. “المشروع” (الميكروباص) في الإسكندرية على درجة كافية من الآدمية، حتى الآن، تجعله خياراً مناسباً لأغلب سكان المدينة من طبقاتها المختلفة. يحمل الترام الأزرق أو “المشروع” طلاب الجامعة متفاوتي الانتماء الطبقي ليجمعهم مدرج واحد، ومعمل واحد، و”كافيتيريا” واحدة. وحتى وقت قريب، كان للجميع فرصة متساوية للنزول في شاطيء واحد، أو شاطئين متلاصقيْن، كما التمشية على كورنيش واحد، أو في شارع “سينما لاجيتيه” واحد، أو في محطة رمل واحدة. لم تعرف الإسكندرية وجود جامعة أمريكية يذهب إليها أبناء “كفر عبده” بسياراتهم الخاصة، حتى لو كان لهم قبل الجامعة مدارس لا يرتادها أغلب سكان المدينة.

 

نتعب كثيراً في شرح عشقنا للإسكندرية لأصدقائنا القاهريين الذين يظنون أن الهوس بــ “مدينة الرب” صنيع مسلسلات أسامة أنور عكاشة أو وليد مبالغات يوسف زيدان. في حين أني، على المستوى الشخصي، لم أهتم مطلقاً بالحديث عن انتمائي الطبقي وحراكي الصاعد من الفقر إلى توسط الحال إلا في المجتمع القاهري ذي الوعي الطبقي العالي، بل المركزي في كثير من الأحيان. أشكر للإسكندرية، كما عرفتها، لا كما يجري اغتصابها عمرانياً الآن، أنها لم تفرق بين ابن “الورديان” وابن “ميامي”، أو بين ابن “كرموز” وابن “الإبراهيمية”، فلم نسمع أبداً عن شخص رُفض في وظيفة ما لمجرد أنه من سكان منطقة بعينها في الإسكندرية، كما يحدث ويتكرر في عاصمة القهر.

 

(5)

 

لا يمكنني أن أنسى الابتكار في “التسول النهري” حين سهرت مع زوجتي ليلة عقد زواجنا على ضفاف فندق “سوفيتيل الزمالك”، كاستثناء برجوازي يليق بهذه الليلة الفريدة. أتت إلينا المتسولة بقاربها ومجدافيْها ومعها طفلها تستجدي منا القروش بعبارات الدعاء للباشا والهانم.

 

خلف قاربها اليدوي المصنوع غالباً لأغراض الصيد، اقترب قارب ترفيهي أكبر حجماً يسير بمحرك يعمل بالسولار مخصص للجولات النيلية والحفلات الشعبية. بدا سلوك القارب الترفيهي متعمداً لإزعاج نزلاء الفندق الفاخر ورواد مطعمه الباهظ بالموسيقا الشعبية الصاخبة. تكررت ملاحظتي خلال فترة إقامتي القصيرة بجزيرة الزمالك، فسمعت من شرفتي بالطابق السابع في عمارة مقهى “كوستا”، بتقاطع شارعيْ أحمد حشمت مع محمد المرعشلي، العديد من هذه القوارب المقتربة من الجزيرة كي تلقي بالضوضاء على سكانها قبل أن تعود لمرساها ناحية كوبري أكتوبر قبالة مقر الحزب الوطني المحروق. أرجح التعمد، لا العفوية، وأراه شكلاً من أشكال الاحتجاج الطبقي الصامت الصاخب.

 

“إذا استطاعوا أن يغضوا أبصارهم عن وجودنا، فلن يستطيعوا إغلاق آذانهم عن سماع ضوضائنا” هذه هي العبارة التي تخيلتني أسمعها من أحدهم/إحداهن. الرسالة وصلت.

 

(6)

 

وقف شباب لجان “البوليس الشعبي” في شارع “ونجد” في الأيام الأولى من الثورة يستوقفون من يشتبهون فيهم من ذوي “الأشكال الغلط” ويسلمونهم لقوات الجيش. كان لزاماً على محمد إبراهيم، العائد من المستشفى الأميري حيث ترقد أمه في احتياج للتبرع بالدم، أن يسلك شارع “ونجد” ليدخل إلى شارعه في منطقة “الظاهرية” من حيث أتى من ناحية شارع “أبي قير”. لم يعجبهم شكله، ولم يقنعهم سبب مرور “واحد من الظاهرية” في شارعهم الموقر. مزقوا ما يثبت سبب خرقه لحظر التجوال وسلموه لقوات الجيش، مع عدد آخر ممن لم تعجبهم أشكالهم أو هيئاتهم أو طريقة كلامهم من سكان “الظاهرية” العابرين اضطراراً من الشارع النخبوي المذكور.

 

قضى محمد إبراهيم، مع آخرين التقيتهم في فبراير 2011، أحلك لحظات حياتهم طيلة أسبوعين بين سجن أبي قير العسكري والمنطقة الشمالية العسكرية وسجن الحضرة، وكتب لهم عمر جديد بخلع مبارك. أطلق سراحهم في الشارع بملابسهم الداخلية عقب التنحي بيوم واحد، وانطلقوا مذهولين في حالة هيستيرية غير مصدقين أنهم أحرار.

 

في الزمالك، كان للمصور والمخرج سمير عِشرة تجربة مؤلمة مشابهة جداً. الفرق الجوهري بين التجربتين أن سائق سيارة الأجرة الذي دخل إلى الزمالك  أثناء توصيل سمير وصديقه كريم كان لديه خيارات أخرى للعبور من القاهرة إلى الجيزة متجنباً الجزيرة، في حين أن ساكن “الظاهرية” القادم من شارع “أبي قير” ليس أمامه سوى الدخول إلى شارع “ونجد”.

 

الجزيرة ليست معزولة بالمعني الميكانيكي، فثلاثة جسور ومحطة مترو أنفاق على الخط الثاني كافية لتحقيق التواصل بينها وبين ضفتي النيل، في القاهرة شرقاً والجيزة غرباً. لكن ما لمسته، مراراً وتكراراً، أن العزلة المعنوية والنفسية المحيطة بالزمالك حقيقية وليست متوهمة. تظهر في تفضيلات سائق التاكسي والعمالة المساعدة في الأشغال المنزلية، كما تظهر في اعتزاز مواليد الزمالك بكونهم ليسوا من الوافدين إليها حديثاً، وبمعرفتهم الدقيقة بتفاصيل الجزيرة التي يعتبرون الخبرة بدقائقها علامة أصالة في الذاكرة الشخصية والعائلية.

 

(6)

 

أين يذهب أثرياء الزمالك أو الهاربون من زحامها؟ يذهبون إلى التجمعات السكنية الأكثر تطرفاً في النخبوية والطبقية على أطراف القاهرة الكبرى، كما يفعل أقرانهم في الإسكندرية الهاربون من الأحياء الموسومة بالرقي إلى تجمعات غرب إسكندرية و”جيتوهات” كنج مريوط. هناك، يستبدل الحاجز المائي الطبيعي المحيط بجزيرة الزمالك النيلية بأسوار وبوابات لا يجتازها إلا حامل بطاقة تميزه عن غيره. ولا عجب أنهما يلتقيان في مصايف ومنتجعات شتوية تجمعهما سوياً بطابعها الانعزالي التمييزي، مع بعض الخدم والعمال.

 

القاهرة والإسكندرية، معاً، في مصر. إي والله! فليس المقصد أن أعقد مقارنة سطحية تظهر فيها الإسكندرية كعروس البحر المتوسط المتشحة بملاءتها السوداء، المتبخترة بخلخالها الذهبي، التي تغتاظ منها الولية الحيزبون، “اللي ما تتسمى”، القاهرة. في الحقيقة، يتم اغتصاب عروس المتوسط أسمنتياً. ويتم السطو على مقتنياتها الأثرية والتراثية جهاراً نهاراً، ويتم الفتك بمساحاتها الخضراء على عينك يا مقاول.

 

المساواة في الظلم افترا، ولا تمت للعدل بصلة. فلست من دعاة إلحاق الخراب بالجميع استجابة لهلاوس شيوعية مطلقة. وبالتأكيد، أحرص على فيلا المعهد السويسري بالزمالك، أطال الله بقاءها، كحرصي على قصر فيكتور عمانويل في محرم بك، رحمه الله. وليس المقام هنا لتفاضل جهوي أو تنافس زائف بين إسكندرية وقاهرة.

 

(7)

 

الدعاية السوداء والوصم الاجتماعي والاختزال مرفوض. وكذلك نكران البعد الطبقي في حراك سكان الزمالك. لنكون أكثر صراحة، دعونا نتحدث عن الجانب الطبقي بوضوح لنعالجه ونتفهمه، ذلك أفضل من إنكاره.

 

قد تأتي المصارحة بغير المتوقع، فنكتشف أن الذين انساقوا للنداءات الشعبوية ضد “انتفاضة الزمالك” أكثر حساسية طبقياً “من تحت إلى أعلى” من أؤلئك الطبقيين “من فوق إلى أسفل”، وفق تعبير إحدى أعضاء جمعية “تنمية خدمات الزمالك” في مكالمة هاتفية معها لاستيضاح حقيقة الأحداث.

 

دعونا نتصارح بالتخوفات المشروعة من التحرش الجنسي، ولماذا ارتبط هذا التخوف بالطبقات الشعبية الأدنى. هل لأن سكان الزمالك شبعانين جنسياً أو يتمتعون بالحرية داخل عقاراتهم التي لا يجرؤ على التطفل عليهم فيها حراس البوابات أو الجيران؟ هل هذا تسليم ضمني بأن التحرش سببه الحرمان؟

 

دعونا نسبر أغوار خطاب أعضاء صفحات “الزمالك تنتفض” و”لا للمترو” على “فيسبوك” ونرى كيف يرون ذكرياتهم في طيات حسراتهم على المنازل الأثرية والتراثية المهدومة. لماذا اهتم صاحب صورة تتحدث عن “برج فودة” الذي احتل مكان The Red Court بتخوفات والده من اعتداء عمال البناء عليه لأنه كان وسيماً و”ذا شعر”، كما قال عن نفسه؟

 

أين يقع الخط الفاصل بين الطبقية النخبوية المتذرعة بأدبيات العمران حول الشخصية المميزة لمناطق الاجتماع الحضري/المديني وبين الاقتناع غير النخبوي بهذه الأدبيات وما يصحبه من خوف على الذاكرة الجمعية أن تمحى؟

 

أو دعونا نتساءل عن مقلوب ما سبق، عن الحد الفاصل بين الدفاع عن أنماط عمران واجتماع الفقراء من منظور إنساني عطائي يطالب الدولة والمجتمع الكبير بمساندة المجتمعات المحلية الكادحة/المهمشة تخطيطاً وتنظيماً وتمويلاً وتنميةً، وبين الحرص على الإبقاء على الأحوال المزرية كما هي من منظور نخبوي أناني للحفاظ على مساحة معتادة للعمل الخيري والصورة الفوتوغرافية الإنسانية والمآسي الدرامية، وكل هذه “الصعبانيات”؟

 

نشاط جمعية “تنمية خدمات الزمالك” أوسع من قضية محطة المترو، هذه حقيقة. لكن تجاوب قطاع مهم من السكان مع هذه القضية تحديداً أكبر من تجاوبهم مع غيرها، هذه حقيقة أخرى.

 

بعض الناشطين في حملة “لا للمترو” من مؤسسي حملة “أحياء بالاسم فقط”، ولهم أدوار مشرفة مع أهالي “رملة بولاق” وغيرها من مساحات حضرية غير منظمة يقطنها الفقراء والطرف الأضعف في المجتمع القاهري وغير القاهري، هذه حقيقة ثالثة. لكن نتيجة ضغط سكان الزمالك أتى بنتيجة وقائية دون الاحتياج للتدخل القضائي العلاجي، هذه حقيقة محتملة تستحق التأمل.

 

قضية محطة المترو بها جوانب متعلقة بالفساد واستغفال السلطة للمواطنين فيما يخص حقوقهم المنصوص عليها في القوانين والتعاقدات الرسمية وتعمّد تضليلهم بالتفاصيل الفنية الكثيرة، كلها حقائق. لكن لماذا تمسك سكان الزمالك بالنص على اشتراط موافقة السكان في سياسة الجهة المانحة لمشروع خط المترو الثالث، وبنوا على هذا النص حملتهم، دون اعتبار لرأي أصحاب المصالح في هذه المنطقة السكنية من غير السكان؟ أليس تساؤلاً مشروعاً؟

 

لم ينتفض سكان الزمالك من أجل إلغاء محطة المترو، بل اقترحوا ثلاثة أماكن بديلة، حصل والله. لكن كثيراً منهم اعتبر إعلان هيئة مترو الأنفاق عدم افتتاح محطة المترو في الجزيرة انتصاراً وحلاً وسطاً/مؤقتاً مقبولاً، ألم يحدث؟

 

دعونا نتصارح طبقياً ونكشف عن تحيزاتنا “من تحت إلى فوق” و”من أعلى إلى أسفل”، ولنطلق عنان التعبير عن الذكريات وعن الخوف من المصير الذي آلت إليه حال “وسط البلد” بسبب ربطها بشمال القاهرة الريفي (جنوب القليوبية) بالخطيْن الأوليْن لمترو الأنفاق. ذلك أفضل بكثير من النكران المتشنج للدوافع الطبقية.

 

(8)

 

انتهينا من المصائب الكبرى كلها ولم يبق لنا سوى محطة مترو الزمالك؟!

 

محطة مترو الزمالك جزء من المشهد الاجتماعي السياسي نستطيع أن نرى من خلاله القضايا الكبرى للثورة المصرية، تلك التي لم تقم من أجل القصاص لشهدائها، إي والله!

 

أضاف الدم استحقاقات مهمة لمسيرة الثورة المتعثرة، على رأسها العدالة الانتقالية، لكن المطالب الأصيلة المرتبطة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ظُلمت كثيراً باسم المناداة بحقوق الشهداء. ودوماً كان لحرمة الدم من الجلال والهيبة ما يحمل الكثيرين على إعطائها الأولوية القصوى من الاهتمام.

 

الخازوق الأعظم الذي ابتليت به الثورة المصرية هو معارك الاستقطاب الوهمية، لاسيما ثنائية “الإسلامي – العلماني” التي دلفت منها الثورة المضادة، وامتطت، وتدلّت أقدامها. فماذا لو كان المقال تكراراً لما نعرفه جميعاً من تحالف العسكر والإسلاميين الذي انقلب عليهم في النهاية؟ هل سيمثل أية إضافة؟

 

لقطة الصراع حول موقع إنشاء محطة مترو الزمالك ضمن المشهد السيريالي الواسع في مصر، يكشف كثيراً من ديناصورية الدولة وأجهزتها البيروقراطية النائمة في الحرام مع رأس المال. كما يكشف عن نضال مواطنين استثمروا المساحات التي أتاحتها الثورة ومارسوا حقوقهم وتعرضوا لدعاية سوداء، لا ينفي زيفها حقيقة وجود البعد الطبقي في حراكهم.

 

التساؤل الإيجابي المطروح الآن: كيف يمكن لسكان الأحياء الأقل نفوذاً وتعليماً أن يمارسوا ضغوطاً ناجحة بمبادرة واستقلال؟ كيف يمكن لأصحاب المصالح في الزمالك من غير قاطنيها أن يشاركوا في اتخاذ القرار وأن يكون لهم صوت مسموع؟

 

الفوز الكبير هو محصلة مجموعة من الانتصارات الصغرى.