ولن يرضى عنك المسلمون حتى تتبع ملتهم

مقال الرأي المنشور في موقع مصر العربية يوم الثلاثاء 11 فبراير 2014 على الرابط:

http://goo.gl/EYAjjD

إسماعيل الإسكندراني

(1)

يؤمن أنصار كل عقيدة بأنهم على الحق المبين الأبلج، وأن مخالفيهم على الباطل المرتبك اللجلج. ليس في ذلك حرج بكل تأكيد، ففي المسائل العملية النسبية قد يتعدد الصواب، وقد يكون هناك صائب وأصوب، أما في القضايا العقائدية المطلقة فالحق واحد والباطل متعدد، من وجهة نظر كل شخص حر الإرادة.

يقرر القرآن أنه “ولَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهَمْ”، ويفهمها المسلمون على سبيل الذم في أولئك الذين يتدخلون في عقائد غيرهم ويصادرون حقهم في الإيمان بما يشاؤون. وعلى الرغم من تقرير القرآن في كثير من آياته بالتعددية والتنوع واعتنائه بالاختلاف كطبيعة بشرية لا تزول، فإنه لسببٍ ما لا أفهمه يرى المسلمون في هذا العصر أنه من حقهم الدعوة لدينهم في البلدان ذات الأغلبية غير المسلمة، ويرفضون بشدة حرية الدعوة للعقائد الأخرى في الدول ذات الأغلبية المسلمة.

أكثرهم فجاجة يستشهد ظاهرياً بآيات من القرآن ونصوص من السنة، وألطفهم يحاول التسويغ لذلك من منظور اجتماعي سياسي، وليس حتى اجتماعي ديني، بأن “فتنة” المجتمع المسلم في دينه ستسبب اضطرابات وعواصف وبراكين وزلازل. لا أدري أين يذهب منطق هؤلاء حين يثور غضب المسلمين في بقاع الأرض ضد ما يتعرض له إخوانهم “الروهينجا” في أراكان بورما (ميانمار)، رغم أن الأغلبية البوذية تعتبرهم خطراً على النسيج الاجتماعي. فهل يقبلون أن تعقد منظمة المؤتمر الإسلامي اتفاقاً مع السلطات البورمية أن يكفل الطرفان حرية العقيدة للأقليات الدينية؟ أم أن العمالة البوذية في دول الخليج، مثلاً، من أبناء البطة السوداء؟!

بكل بجاحة واستعلاء يهلل المسلمون في هذا العصر لقصص دخول الأوروبيين والأمريكيين في دين الله أفواجاً، دون أن تُغلق المساجد أو تصادر المصاحف أو يُعتقل الدعاة الذين قد يكونون زائرين غير مواطنين، وهم في الوقت ذاته يرون أي نشاط دعوي للمسيحيين في بلدانهم الأصلية تنصيراً خطيراً يهدد أمن الدولة والمجتمع ويحقق أهداف الأجندات الخارجية الصهيوصليبية.

(2)

نشر موقع “مصر العربية” تقريراً بعنوان (“التنصير” على هامش معرض الكتاب بالإسعاف) يوم الأربعاء 5 فبراير 2014. وبغض النظر عن الخطايا المهنية التي ارتكبها الزملاء في نشر موضوع يفترض أنه مهني وليس مادة رأي، إلا أن وصف “تنصير” الذي اختارته الزميلة المحررة يلخص نظرة الأغلبية المسلمة في مصر لتوزيع الإنجيل كهدية مجانية على هامش معرض كتاب. الطريف أن المسلمين يعتبرون المسيحيين “أهل كتاب”، لكنهم يتوجسون خيفة من توزيع ذلك الكتاب ولو على هامش معرض تباع فيه الكتب من كل الألوان والأصناف. لا أدري ما الذي اخترق أذن المحررة، كما وصفت، حين قالت لها الفتاة المسيحية “مهم أننا نعرف بعض”؟! فما الخارق في هذه العبارة البسيطة التي خاطب بها القرآن المسلمين محدثهم عن خلق الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا؟

استبدال كلمة “تبشير” بمعنى نشر البشارة أو الدعوة إلى المسيحية بكلمة “تنصير” له أصل نقدي لممارسات الإرساليات الدينية الاستعمارية التي رآها الناقدون تبتز المسلمين وغيرهم من الوثنيين في أفريقيا وآسيا لنشر المسيحية قسراً. في الحقيقة، قد يكون القبطي الأرثوذكسي المحافظ أكثر حرصاً وتوجساً من إرساليات الكاثوليك الغربية، وفقاً لهذا التصور. لكن، كالعادة، تنفصل المصطلحات عن دواعي التدقيق فيها وتصير كاللبان بين أفواه لائكيه.

التقرير المنشور في موقع “مصر العربية”، ولغته المليئة بالتوجس والهواجس، يوحي بأن الفتيات المسيحيات يختطفن أطفال المسلمين على باب الكنيسة ويقمن بتنصيرهم قسراً في دور الأيتام الكنسية. ولأن توزيع نسخة فاخرة من الإنجيل كهدية تعتبر في عرف الأغلبية المسلمة منكراً يجب النهي عنه، لم تتردد الزميلة المحررة أن تدل الغيورين على دينهم على أوصاف الفتيات المسيحيات واسم إحداهن، وكذلك موقع معرض الكتاب الفرعي في محطة “الإسعاف”، لتفتح الباب على مصراعيه للاحتمالات الغبية كافة.

الجريمة التي تراجعت عنها إدارة الموقع، ولله الحمد، كانت نشر صورة لإحدى الفتيات المسيحيات واضحة الوجه مع التمويه على وجوه الفتيات المحجبات، اللاتي ساعدن المحررة في عملها “الاستقصائي الخطير”. بالطبع لا يوجد استقصاء في ذلك التقرير السخيف، ولم تمر عليه رائحة المهنة ولا الصحافة، بل كان أقرب للتحريض غير المسؤول من أي شيء آخر. والحمد لله أن المعرض قد انتهى على خير دون حوادث غبية قد تعصف بالوضع الاجتماعي السياسي المنهار أصلاً، وتدفع به إلى غياهب اقتتال طائفي نفثت فيه لغة كراهية نضح بها تقرير غير مهني نشره موقع أعتز بالكتابة فيه. فكما يقول الصعايدة “غلطة الكبير كبيرة”، لذلك أجاهد في صرف السيناريوهات السوداء عن ذهني وأنا أتخيل تداعيات نشر التقرير بصورته تلك.

(3)

يتشدق أنصار الأصالة الإسلامية في المعرفة، بالمعنى الإبستمولوجي، بأن تراتبية القيم في حضارة المسلمين يعلوها العدل، وليس الحرية التي تعليها الحضارة الغربية عما سواها. وأستغرب حقاً من تطبيقات حملة دين يؤمن بالعالمية والإنسانية، لا المحلية ولا القومية، لمفهوم العدل حين يرون أنه من حقهم أن ينْصُرُوا المسلمين في أنجولا في حين يستكثرون على الفاتيكان إصدار بيان يدافع به عن الوجود المسيحي في العراق وسوريا، أو عموم ما أسماه الشرق الأوسط.

أغلب فاتحي المناحة على المسلمين في أنجولا أو المذابح الإجرامية ضد المسلمين في أفريقيا الوسطى لم يكونوا يعرفون بوجود مسلمين في هذين البلدين، فضلاً عن جهلهم بموقعهما على الخريطة السمراء. ورغم أن الوجود المسيحي في العراق والشام وتنوعاته المذهبية والطائفية يعتبر شامة في وجه تاريخ المسلمين الممتد لقرون طويلة، إلا أن مسلمي هذا العصر لا يبالون بأن تتحول الشامة إلى وصمة عار تاريخية غير مسبوقة بدعوى انشغالهم بما هو أهم. وكأن هناك حالة من استلطاف الحروب العقائدية الاختزالية التي تتوارى فيها الدوافع الاقتصادية والسياسية والقومية وراء حق عقائدي نحتكره نحن لنحارب به باطلاً عقائدياً يتقاسمه الآخرون جميعهم.

هل يقبل مسلمو هذا العصر حلف فضول ديني عالمي تُكفل فيه الحقوق الدينية للجميع وتُصان فيه حرياتهم مهما كان عددهم أو نسبتهم كأقلية في أي بلد؟ هل يثق المسلمون في حجتهم وحقيقة ما يحملون ويستعد دعاتهم للمناظرة والجدل بالتي هي أحسن؟ هل يفهم مسلمو هذا العصر آية “وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” وكأنها “عِظْهم بالتي هي أحسن”؟ ما معنى الجدال إذا احتكرتَ الكلام وألزمتَ الآخر بالاستماع؟ وهل يؤمن مسلمو هذا العصر حقاً بأن الذي نزّل الذكر يحفظه، أم أن فتح باب الحريات الدينية سيأتي على أركان الإسلام فينهار الدين الحق؟

أفهم من حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” أنه لا يكتمل إيماني إلا إذا أحببت لأخي الإنسان ما أحبه لنفسي من الهداية بالقرآن، وهو ما قال به ابن رجب الحنبلي في شرح الأربعين حديثاً النووية مستشهداً بقول الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – “الناس صنفان؛ أخ لك في الدين ونظير لك في الخلق”. ولا أفهم لماذا يفسره بعضهم بالوصاية على خلق الله وتحديد ما يصلح لهم أن يسمعوه أو يناقشوه؟!

(4)

قال لي: “إذا علمت أن بائع حشيش يعرض على ابنك بضاعته هل ستتركه يجرب أو يناقش؟”. قالها بثقة مطلقة أني سأرتبك أو سأجاريه في هذا التشبيه الماركسي الكلاسيكي الذي لم يقصد به أن يعتبر الدعوة الدينية كالحشيش والأفيون. لكني أربكته قائلاً بأني لو منعت ابني بالقوة سأكون أباً فاشلاً وغير ديمقراطي.

أصر أن يستكمل الجدل من ذلك المنظور الضيق، فأجبته بأني سأكون حريصاً حين يرزقني الله الأولاد أن يكون ابني أجرأ من تجار المخدرات، وأن تكفيه ثقته في نفسه ليحاروهم ويدعوهم لما يراه خيراً وصواباً. لكني لم أتجاهل خطورة التساؤل بهذا المنطق الأبوي، الذي يستبطنه كل من الإسلاميين والقوميين في نظرتهم لدور الدولة الوصية على سلوكيات أبنائها ورعيتها، لا مواطنيها.

هنا، ننتقل من مناقشة موقف المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة من حرية الدعوة للعقائد الأخرى لندخل في صراع مع توقعات الأيديولوجيين من الدولة وفق تصوراتهم السلطوية. فالدولة في خيال الإسلاميين، والقوميين كذلك، دولة فضيلة، وأم يجب على الأبناء برّها وعدم إغضابها، فهي الأدرى بما يصلح شؤون البنين والبنات، الأحياء منهم والأموات. لذلك فهي تتحكم في الأفكار والمناهج التعليمية مركزياً، وتراقب المنشور في وسائل الاتصال الجماهيري قبل النشر وبعده. وهي بالتأكيد دولة محافظة تخشى على أولادها من عبور الطريق وحدهم، وتتخذ من الإجراءات والسياسات ما تضمن به نومهم مبكراً بعد تنظيف أسنانهم بالمسواك أو الفرشاة، كي يستيقظوا مبكراً ويشربوا كوب اللبن كاملاً.

تلك التصورات الرجعية عن دولة “نينا” تخفي في طياتها استعباطاً هائلاً يتجاهل طفرة الاتصال وتقنيات التواصل. في الأغلب، يعرف المدافعون عن هذه الأوهام عدداً لا بأس به من الملحدين ومن مدمني مشاهدة المواد الجنسية عبر شبكة المعلومات الدولية، ورغم ذلك يحاولون إقناعنا بما فشلوا في الاقتناع به بأن دولة “تيتا الحاجة” تستطيع تربية المجتمع. العبث كل العبث أن يردد هذا الكلام من يرد على لسانه كلمة “ثورة”.

(5)

مقالي الأسبوعي في موقع “مصر العربية” هو مقال رأي مدفوع الأجر، وأي وصف غير مهني ورد في هذا المقال فهو رأيي الشخصي الذي أشكر للموقع أن أتاح لي نشره. وللزملاء جميعاً كامل الاحترام.

أضف تعليق