خرتيت أسطوري في المدينة

ثورة الفلاحين؟

مقال في الاجتماع الحضري السياسي منشور على موقع “قُــلْ” بتاريخ 13 يناير 2014 رداً على مقال سابق على الموقع ذاته بعنوان “فيل ضخم في الغرفة”

كتب: إسماعيل الإسكندراني*

تمايز الريف المصري عن المدن الكبرى في طبيعة المساحات التي اعتبرت مجالاً عاماً يجتمع فيه الناس للمشاركة في الشؤون العامة المحلية والوطنية. لم يعرف الريف، عدا القرى النوبية، الصالونات الثقافية أو المنتديات الفكرية في أماكن ذات ملكية عامة أو استخدام جماهيري، لكن قام “الدوّار” و”المندرة” و”الزوايا الصوفية” بأدوار مشابهة تقريباً وإن اتسمت بالخصوصية المحلية في اختيار الموضوعات وطرق تناولها، مع تبعيتها لأفراد أو عائلات أو وجهاء قبائل أو مشايخ. وبالتزامن مع التضييق السياسي على المجال العام في الريف، وبالأخص في دور العبادة، التي تعد من أهم الملتقيات العمومية، ضاق الفضاء العمراني بالزحف الأسمنتي على كل من الأراضي الزراعية والبور، ما أحكم الحصار الفراغي على المجتمعات الريفية في مصر.

على مستوى الوحدة الواحدة، طرأت تحولات كثيرة على الأنماط المعمارية في منازل العائلات الممتدة في الريف المصري. لعل أهمها هو التحول من التوسع الأفقي في الغرف المتجاورة، التي كانت تقطنها الأسر الشقيقة داخل البيت الواحد الفسيح، إلى التوسع الرأسي بالبناء الخرساني، حيث استقلت كل أسرة في شقة أو طابق، دون أن ينفرط عقد العائلة الممتدة خارج المنزل الكبير. فهل كان للاستقلال النسبي والخصوصية العالية نسبياً التي حققتها هذه النقلة المعمارية أثر في استقلال الإرادة السياسية للأفراد عن كبير/ة العائلة؟ هل أسهمت التغيرات المعمارية، وما رافقها من طفرة في استخدام تقنيات الاتصال الحديثة، في تغيير أنماط المشاركة السياسية؟

 

“فيل ضخم في الغرفة”

الأفكار والتساؤلات المطروحة في الفقرتين السابقتين كان من المتوقع أن يجد القاريء اشتباكاً معها أو معالجة لبعضها في مقالٍ كتبه “معماري” للمقارنة بين الريف والحضر لتحليل المفارقة بين مشاركتهما وخياراتهما السياسية. لكن المقال الذي نشر على موقع “قُلْ” بعنوان “فيل ضخم في الغرفةخيب التوقعات كلها، ولم يحوِ سوى نص ركيك –في رأيي- للتفاضل الجهوي المفرط في التعالي الحضري على الريف. فعوضاً عن أن يحدثنا كاتبه المعماري عن اختلاف أنماط الضبط الاجتماعي controlوالمراقبة السياسية surveillanceبين الريف والحضر من منظور عمراني وتخطيطي، راح يضع الوسوم على الحضر والريف، باعتبار الأول حاملاً شعلة المشروع الوطني التحديثي، والثاني وكراً للإسلاموية المقترنة بالرجعية، لا مجرد المحافظة.

إن اختزال مشهد 30 يونيو تحديداً بأنه ثورة مدينية على التيار الإسلاموي الريفي، أو المتريّف، فيه من المغالطات والقصور ومحدودية أفق التحليل ما يكفي للرد عليه في عدة مقالات. لكن النقطة المرجعية التي سأنطلق منها لمقارنة المشاركة والاختيار السياسي بين الريف والحضر هي (25 يناير – 11 فبراير)، أو الثمانية عشر يوماً المؤسِّسة للقطيعة مع عصر مبارك.

أغفل المقال المذكور، عن جهل أو تجاهل، دور الريف المصري في ثورة 1919 مصرّاً على تأصيل المفاضلة الجهوية تاريخياً، لكنه محق بنسبة كبيرة في تمحوره حول مدينية ثورة يناير. الراجح أن الريف لم يثر على نظام مبارك لطبيعة العلاقة الزبائنية بين شبكات فساد الحزب الوطني وبين ذوي النفوذ في المجتمعات الريفية المحلية، حيث استفادت السلطة من النظام الأبوي السائد في الريف، فاعتمدت على عدد محدود نسبياً من ذوي التأثير النافذ هيراركياً لممارسة الضبط وتحجيم المشاركة الثورية في الثمانية عشر يوماً الأولى. الإشكالية التي يقع فيها المقال المشار إليه هي موقف كاتبه من ثورة يناير ابتداءً؛ هل كانت ثورة استفاد منها الإسلاميون الريفيون – على حد وصف المقال – أم كانت ثورة مدينية معادية للإسلاميين؟ أم أنها لم تكن ثورة من الأساس وكانت مجرد “أحداث”؟!

 

من الذي ثار في المدن؟

المغالطة الثانية هي إصرار المقال على صهر التنوع الذي شهده الحدث الثوري في القالب الحضري، مغفلاً أو متغافلاً عن نزوح كثير من الثوار من محافظاتهم الريفية للمشاركة في قلب الحدث الثوري. الحقيقة أن كثيراً من الصحفيين والباحثين والكتّاب لم يتحرروا من أسر المركزية المتطرفة التي اختزلت الثورة في ميدان التحرير ولم تر خارجه سوى الإسكندرية والسويس، على أحسن تقدير. صنع الإعلام هذا الوعي المركزي المبتسر، ولعله كان معذوراً جزئياً لأسباب أمنية ومالية في حينها، لكني لا أجد عذراً لمن يتجرأ على تحليل المشاركة الثورية على المستوى الوطني دون أن يخرج عن دائرة التركيز التقليدية. هذه المركزية المفرطة، المرتبطة حتماً بمركزية صنع القرار السياسي في العاصمة، حملت كثيراً من ثوار الإسكندرية على مفارقة حراكنا اليومي في الموجة الثورية الأولى والانضمام إلى ميدان التحرير ذي التأثير المباشر على النظام المركزي، وذلك على الرغم من كون الإسكندرية العاصمة الثانية الحاضنة لمقر قيادة المنطقة الشمالية العسكرية ومقر قيادة القوات البحرية، وكونها ذات تغطية إعلامية عالمية جيدة. فأين ينبغي لابن ريف الدلتا أو الصعيد أن يشارك إذا أراد لصوته أن يكون مسموعاً ومؤثراً؟!

هل يجرؤ أحد أن يزعم أن ميدان التحرير لم يضم سوى ثوار الحضر؟ أم أننا سنعود لنسأل كاتب المقال المذكور عن موقفه من 25 يناير، كانت ثورة أم أحداثاً؟

دفاعاً عن حراك سكان جزيرة الزمالك ضد موقع إنشاء محطة مترو الأنفاق، يطالب بعض النشطاء والكتّاب ألا يُعاقب أهل الزمالك معنوياً بسبب انحياز السلطة وانتقائها لمن تستجيب لضغطهم، فهم ليسوا مسؤولين عن معاداة السلطة للفقراء. التناقض هنا أن نؤيد هذه الحجة ونستبيح معاقبة أهل الريف عموماً، وأهل الجنوب خصوصاً، على وضعهم خارج دائرة التأثير على مجريات الأمور بسبب سياسات المركزية المفرطة وتهميش الريف والجنوب التي انتهجتها ورسختها دولة عسكر يوليو. التجبر والصلف هو تذكية انسحابهم وإحساسهم بالدونية المواطنية بالخطاب المتعالي عليهم، الناكر لهوياتهم الريفية الفرعية إذا انضموا إلى الحراك في قلب المشهد الثوري الوطني المركزي.

قاوم الصعايدة هذا التهميش الثوري المتعمد، عن وعي أو بلا وعي، ودشنوا صفحة على موقع “فيسبوك” بعنوان “الصعيد .. ثورة على الهامش“. أملوا من خلالها أن يوثقوا مشاركتهم في الموجة الثورية الأولى في عدة مدن جنوبية؛ منها أسوان والأقصر ونجع حمادي وسوهاج وجرجا وأسيوط والمنيا. وكتبتُ مقالاً تحليلياً في محاولة منحازة لإنصاف الجنوب بعنوان “الثأر والثورة: لماذا يثور الشمال ولا يفعلها الجنوب؟“، عالجت فيه أيضاً العوار الشديد في ثنائية الريف-الحضر التي تغفل تماماً أن في مصر مساحة اجتماعية أخرى مهمة اسمها “البادية”. فقد كانت الثورة في المدن كلها سلمية، بما في ذلك مدينة العريش عاصمة شمال سيناء، في حين ثارت المنطقة الحدودية البدوية في مدينتي “الشيخ زويد” و”رفح” بالكلاشينكوف ومضادات الدبابات ومضادات الطائرات، وذلك لأسباب ثأرية وانتقامية ضد جهاز الشرطة ذي السجل الإجرامي الحافل.

التسامح مع التعصب الحضري ضد الريف يفتح الباب إلى زحف المفاضلة الجهوية بمنحى طبقي/ثقافي فرعي داخل المدن، بين أحياء المدينة الواحدة، انطلاقاً من واقع الهجرة الريفية الداخلية إلى تخوم الحضر. هنا، يمتد التحليل في المقال المشار إليه ليلتقي مع الكتابات السياسية والأمنية التي تعتبر العشوائيات وأحياء الحضر المتريّف مستنقعاً للتطرف والجريمة والجهل والمرض والفقر. مرة أخرى، يقودنا التعالي الحضري على الريف إلى المعاقبة المعنوية والأدبية لضحايا سوء التخطيط الحكومي تنموياً وعمرانياً.

أتخيل المقال التالي للكاتب نفسه يفاضل بين أحياء القاهرة الكبرى، فينسخ الوسوم والوصمات التي أطلقها على الريف ليعيد توزيعها على إمبابة والعمرانية ودار السلام والمطرية وعين شمس، وذلك في مقابل الثناء على المعادي والزمالك والمهندسين والدقي. ولن يخذله الأرشيف الأمني والسياسي في التدليل على هذا التصنيف بشواهد من تاريخ الاعتداءات الطائفية والمؤشرات الانتخابية للميول السياسية في المناطق المذكورة وغيرها. وبكل وضوح، فإني أعلن انحيازي لثورية “ناهيا” في 25 يناير 2011 ضد فلولية “مصر الجديدة”، التي عاشت مأتماً كئيباً يوم 11 فبراير، مخالفةً بذلك المزاج العام لربوع مصر المحتفلة بخلع مبارك.

 

مشاركة الريف في 30 يونيو

انطلاقي من مرجعية 25 يناير هو وضع للأمور في نصابها الصحيح وتأكيد للمرجعية الثورية غير الأيديولوجية ضد القمع والظلم والمهانة وسياسات الإفقار والتجويع، أي الثورة من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، وليس من أجل مطالب إسلاموية أو مناهضة للإسلامويين. ذلك لا يعني التهرب من تفنيد مزاعم المقال المشار إليه حول 30 يونيو.

افترض المقال واهماً أن حراك 30 يونيو كان ثورة مدينية ضد “فِلْح” الإخوان وتحالف سلطتهم، لكن كاتبه لم يعبأ بالسؤال أو البحث عن حجم مشاركة الريف في ذلك اليوم. ولعله سيفاجأ حين يعرف أن المحافظات الريفية قد شهدت حراكاً غير مسبوق منذ ثورة 1919، حيث تحركت الحشود من القرى والنجوع والكفور إلى المدن الكبيرة وعواصم المحافظات للمشاركة في الانتفاضة ضد حكم الإخوان وأزمتي الوقود والكهرباء. فإذا كان الكاتب يقر بالتقديرات المليونية في هذا اليوم، فهل يظن حقاً أنها ملايين حضرية غير ريفية؟!

الصدمة الثانية الذي يتلقاها التحليل البرجوازي وريث النظرة الاستعمارية في المقال المشار إليه هي مشاركة الطرق الصوفية في حشد سكان الريف، وهي الجماعات المرتبطة بشدة بالأجهزة الأمنية والاستخباراتية. فإذا كانت 30 يونيو “ثورة” إيجابية ضد الإخوان وحلفائهم المتشدين، فهل سيرضى عن الريف والطرق الصوفية “السمحة” التي عاونت القوى الليبرالية وحلفاءها من أجنحة السلطة والأجهزة الأمنية في التخلص من الكابوس الإسلاموي؟ وإذا علم أن نفوذ الطرق الصوفية الداعم للدولة القديمة في ريف الصعيد والدلتا أكبر من تأثير الإسلامويين المتحالفين مع الإخوان، فهل سيراجع الأوصاف التي أطلقها على الريف، الذي لا يدرك حجم مشاركته في 30 يونيو؟ وما موقفه من حقيقة التقدم الكاسح لأحمد شفيق في محافظات الدلتا الريفية في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بما في ذلك “الدقهلية” العاصمة التمويلية للإخوان، هل خضع ريف الدلتا حقاً لنفوذ الإسلامويين الرجعيين؟

إن الجزم بأن حقيقة الصراع ما هي إلا أزمة ريفية حضرية يعد تعسفاً مبالغاً فيه وتسطيحاً لصراع مركب بالغ التعقيد سوسيولوجياً، خاصة إذا تم الخلط بين مؤشرات النتائج الانتخابية بين الريف والحضر في الغرب وبين الواقع في مصر. المزعج جداً في المقال المذكور أن يتم وضع الريف المصري في جملة واحدة مع الريف السوري في مقابل الحضر المصري، الذي يربط الكاتب بينه وبين سيطرة نفوذ النظام السوري الطائفي المجرم على بعض المدن.

المقال المشار إليه لم يكتف بالاختزال المحلي، بل قدّم محاولة لا بأس بها لـ “عولمة التسطيح”، حيث اعتبر ثنائية الريف-الحضر حقيقة عالمية تحمل الدلالات نفسها في سياق متجاوز الخصوصيات كافّة، مع جرعة مكثفة من السطحية والتعالي والوصم الفكري والاجتماعي. اختار الكاتب استعارة وجود فيل ضخم في الغرفة يتعامى عنه الجميع، لكن الأرجح هو وجود خرتيت أسطوري الحجم في أوهام الكاتب يجب إخراجه بعدد كبير من الزيارات الميدانية والمقابلات البحثية والقراءات المتعمقة قبل التنظير للتعصب الجهوي ضد “الفلاحين”.

———-

* باحث في علم الاجتماع السياسي. يعرف نفسه في هذا المقال بأنه “سكندري المولد والنشأة، قاهري الإقامة، سيناوي التخصص، منحاز لجنوب مصر”

أضف تعليق