عن ثورة الموسيقى الكلاسيكية وقاعات السلطة وأمور أخرى

Classical Revolution

Classical Revolution

[1]

إسماعيل الإسكندراني

 انتهزت فرصة عطلة نهاية الأسبوع للخروج قليلاً والتخفيف من الضغوط. دخلت وزوجتي مطعم Busboys في شارع قريب من شارع U ذي التاريخ المرتبط بنضال السود من أجل حقوقهم المدنية. كان نصيبنا في الجلوس بقاعة العروض الكلاسيكية، حيث تناولنا الطعام على ألحان موسيقى كلاسيكية عزفها بعض أعضاء حركة Classical Revolution الموسيقية، دون أن أفهم معنى “الثورة الكلاسيكية” التي وجدتها مكتوبة في البرنامج المطبوع المرافق لقائمة الطعام على المنضدة.

 

بعد فقرتين أو ثلاث تحدث أحد أعضاء الحركة ليشرح للجمهور معنى الثورة الكلاسيكية. هي ليست فرقة موسيقية، بل حركة لإحياء الموسيقى الكلاسيكية، يعزف فيها متطوعون لا يتقاضون أجراً من المكان المضيف ولا من الجمهور، ويرحبون بمشاركة الجمهور في العزف. وبعد الانتهاء من فقراتهم يوجهون الدعوة للجمهور ليصعد من يريد ويعزف موسيقى كلاسيكية. أما الأماكن التي يعزفون فيها فهي كل الأماكن غير التجارية؛ كالشوارع، والميادين، والمكتبات، ودور الثقافة والفنون. وحتى المطعم الذي كنا فيه – مطعم “أولاد الأتوبيس” – له توجه ثقافي وفكري. فهو ملحق به مكتبة للقراءة ولبيع الكتب، وفيه قسم خاص بكتب دراسات السلام. وجدار القاعة التي أكلنا فيها مليء بـ “كولاج” عن أيقونات السلام والنضال غير العنيف في العالم، مثل غاندي ونيلسون مانديلا ومارتن لوثر كينج. وقد أوضح المتحدث أن هذه التي أسموها “ثورة الموسيقى الكلاسيكية” قد بدأت في الساحل الغربي الأمريكي منذ 2009، وانتشرت حتى وصلت الساحل الشرقي وبعض عواصم أوروبا.

 

الشاهد من القصة أن كلمة “ثورة” هنا مرتبطة بكسر النمط الاستهلاكي للترفيه وبإشراك الجمهور مع المتطوعين، وإنهاء خرافة “الاحتراف”. فلن أحكي عن الانسجام الفريد الذي رأيته في أعين العازفين ولغة جسدهم، وهم الذين يفعلون ما يحبون في عطلة نهاية الأسبوع دون نظير مادي. ولن أصف التنوع العرقي والعمري بين العازفين. لكني أكتفي بالتأكيد هنا على أن إزاحة الجماهير لأنساق هيمنة “المتخصصين” و”المحترفين” صار المشترك العالمي لمفهوم الثورة. بل يمكن أن نؤكد معنى الثورة بالتحرر من القواعد التي لا يعرف أحد السر في التمسك بها ولا سياق نشأتها، كاشتراط ارتداء الملابس الرسمية في الأوبرا، أو الفاصل الكبير بين خشبة المسرح والجمهور، أو حتى وجود ستار، أو “حراس” على “بوابات” الإعلام!


عن الموسيقى ومساجد بلادنا

 

لم أعزف الموسيقا يوماً سوى خبطات على باب أو منضدة، لكني أستطيع أن أتفهم كيف يعشق العازفون آلاتهم، وأعتذر لهم إن كان استخدامي لكلمة “آلة” يضايقهم. فحين يحتضن أحدهم عوده أو جيتاره أرى في عينيه نظرة أم تحمل رضيعها أو صديقاً يلتزم رفيق دربه بعد أن باعد بينهما سفر كريه.

تأملت أعضاء حركة “ثورة الموسيقى الكلاسيكية” وهم يعزفون متطوعين لا يتقاضون أجراً ولا يمتهنون العزف. رأيت علاقة حميمية خاصة بين كل عازف وآلته، فقلت في نفسي: إذا كانت هذه هي وسائل تعبيرهم عن أنفسهم وشعورهم ومزاجهم فكيف تحب أنت لسانك؟ وكيف يحب الكاتب قلمه؟ وما هي الألوان بالنسبة للرسام؟

 

انتقلت بخيالي لبلادنا .. تخيلت أحدهم يحضن عوده أو مزماره، يسمع أذان العصر فيهم بالدخول إلى المسجد ..

 

تخيلته يحتار في المكان الذي يترك فيه عوده كي يتوضأ. دارت بذهني عدة احتمالات عن الأخطار المحدقة بالعود أثناء وضوئه. رأيته في خيالي يخرج من الميضأة والماء يتقاطر من شعره ولحيته، مشمراً رِجْلَيْ سرواله وأكمام قميصه، يحمل العود بيده اليسرى بينما يفرد الكم باليد اليمنى اتقاءً للبرودة، ثم يبدل حمل العود باليد اليمنى ويفرد كُمّها باليسرى.

 

يذهب وسط نظرات الدهشة والاستهجان إلى الصف الأول ليسند عوده إلى الحائط وينثني ليفرد رجل السروال ويرتدي جواربه. يهم بتكبيرة الإحرام ليبدأ ركعتي سنة الوضوء وتحية المسجد فتلتقط أذنه الهمهمات ويشعر بأنه محاط بالغمز واللمز. يلقي أحدهم مزحة سخيفة عن الصلاة على “واحدة ونص”، ويضرب أحدهم كفاً بكف منزعجاً “ما هو ده اللي ناقص”.

 

يحاول صاحبنا أن يخشع في صلاته فيمنعه صوت قاريء للقرآن ترك المسجد كله ليجلس بالقرب منه ويرفع صوته تالياً “وَمِنَ النـَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبـِيلِ اللهِ بـِغَيْرِ عِلْمٍ” فيفهم أنه المقصود بهذه التلاوة. يحدث نفسه: “هو أنا غلطان أني دخلت أصلي في الجامع؟!”. يقوم المؤذن ليقيم الصلاة، ثم يتقدم الإمام، فيلتفت مقيم الشعائر ليعود إلى الصف وهو يرمق صاحبنا بنظرة حادة ذكرته بنظرات والده، تلك التي كانت السبب في تركه لبيت أسرته وإقامته مع بعض الأصدقاء العزاب. في الصلاة يفكر: “كل من أعرفهم ممن يصلون يستمعون للموسيقى ويحبون الأغاني، وهذا المؤذن بالذات دخلت عليه مرة في رمضان بعد صلاة المغرب فوجدته يفطر في المسجد على أغاني الراديو”.

 

ألحظه وأشعر به وأفهم ما يدور بداخله، ويضيع خشوعي معه متسائلاً بيني وبين نفسي: “أيهما أكبر عند الله، حمل العود في المسجد أم تنفير عباد الله من بيوت الله؟!”. الأمر مختلف فيه فقهياً، وهو لم يعزف في المسجد على أية حال “لماذا تلاحقونه بنظراتكم وهمهماتكم وغمزكم ولمزكم؟”

 

“السلام عليكم ورحمة الله .. السلام عليكم ورحمة الله”

 

ينتهي الإمام من الصلاة ليلقي موعظة عن فتن الدنيا وأن ما عند الله خير وأبقى من حياة اللهو والغرور. أرى الناس يستمعون أو يتظاهرون بذلك والإمام مستمر في الإلقاء في خطاب من طرف واحد لا نقاش فيه ولا تعقيب. أتذكر المرأة التي قاطعت عمر بن الخطاب وهو فوق منبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيقر بخطئه وصوابها، وأدرك أن الخلافة الراشدة قد ولّت وقد أتى بعدها زمن لا يأمن فيه الخطباء من بطش الجماهير فصنعت لهم نخبة النجارين منابر عالية ذات أبواب يغلقونها إذا صعدوا عساها تحمي مركزهم السلطوي من زحف الجموع.

 

أسمع صوت حوار يأتي من الخلف ينتهي بأسف أحدهم على هؤلاء الذين يعانون من التناقض ملمّحاً لصاحبنا المصلي صاحب العود. أهم بالخروج من المسجد مثقلاً قدمي كي أطمئن على صاحبنا فأرى ثلاثة من أولئك الذين يظهر شعر سيقانهم بين الجوارب والسروال المفرط في القصر يتوجهون إليه والعبوس يعلو وجوههم. وما إن يهم أحدهم بالبدء في الحديث إلى صاحبنا إلا وقد هززت رأسي هزات عنيفة طارداً هذا السيناريو من خيالي مذكرا نفسي بأني في واشنطن عاصمة بلاد العم سام. وليس ذنب زوجتي أن رافقتني في هذه الأمسية المهددة بالنهاية الكئيبة. أقطع عرض الفيلم في خيالي وأعود إلى الواقع .. أين قائمة الحلويات كي نحبس الغداء؟

 

عن السلطوية التي تفرض نفسها

شاركت في برنامج مكثف أقامته السفارة الهولندية بالقاهرة لبعض الصحفيين المصريين في سبتمبر 2012 لتغطية الانتخابات البرلمانية والتعرف على المشهد السياسي الهولندي. مما لفت انتباهي أن قاعات الاجتماعات التي التقينا فيها ممثلي الوزارات والهيئات الحكومية وغير الحكومية تخلو جميعها من المناضد المستطيلة. لم نجلس، بل حتى لم نر، في أكثر من عشرين قاعة جلسنا فيها أو مررنا عليها سوى موائد مستديرة. سافرت بعدها إلى برنامج الزمالة في واشنطن فبدأت أسمع منصب “الرئيس” متكرراً في بعض الهيئات والمؤسسات. ورأيت المناضد المستطيلة الضيقة التي يرأس فيها شخص واحد الاجتماعات. قلت في نفسي لعلها طبيعة النظام السياسي للبلاد قد انطبعت على التصميمات الداخلية في الأثاث، فهولندا ملكية دستورية ذات نظام برلماني وحكومات ائتلافية دوماً والولايات المتحدة فيدرالية رئاسية. لكن السؤال الذي لم أجد له إجابة: أيهما أسبق، النظام السياسي أم تصميم الأثاث؟

 

فكرت كثيراً في ذلك الطالب الجامعي المليء بالحماس الذي يهب واقفاً ليناقش أستاذه في المدرج ويختلف معه ويرد على ما يختلف معه من آرائه. هو موقف مألوف لدى طلاب الكليات النظرية ممن يحضرون المحاضرات، وفي الأغلب ينتهي بانتصار الأستاذ مهما كانت حجة الطالب وقوتها. ذات مرة قلت في نفسي لماذا لا أتخيلني أستاذاً مبتلىً بهؤلاء الطلبة المتحمسين؟

 

تقمصت الدور لدرجة أني بدأت يومي بسيارتي المعطلة والتاكسي الذي أضطر لأركبه متحسساً جيوبي مستبعداً فكرة المواصلات العامة غير اللائقة بمكانتي الجامعية. وصلت الجامعة فمررت على بوابتها حيث رأيت موظف الأمن يمارس سلطة فريدة على دخول الناس والطلبة لحرم الجامعة في مشهد لا تعرفه أية دولة محترمة ولا أي مجتمع حر. دخلت المدرج حيث اعتليت منبري الوحيد الذي أتحلى فيه بقدر لا بأس فيه من الحرية، متساءلاً: يا ترى أي تلك الفاتنات التي ستكتب التقرير الأمني؟

 

وما إن انطلقت أعبر عن نفسي وأفكاري ومشاعري، تلك التي لا يشترط أن تكون ذا علاقة بموضوع المحاضرة أو المادة التي أدرّسها، حتى رفع أحد الفذاليك يده طالباً الكلمة. تحدث الصعلوك بكلام ركيك يريد أن يضاهي به كلامي أنا. أنا الأستاذ الجامعي الذي نالت رسالته للدكتوراة تزكية مجلس الجامعة وتوصية بالنشر قبل أن يولد هذا الولد. هزتني جرأته فلم أتمالك نفسي من الانتقام الساخر كي لا يظهر انزعاجي أمام الطلاب. تركته ينهي حديثه ويجلس فحذرته من زميله الذي يصنع له قرنين بيده من المقعد الذي وراءه. التفت هو وسائر الطلبة إلى زميلهم المشاغب فلم يجدوا أحداً في المقعد، ورأوا بدلاً من ذلك أثر المقلب على وجه زميلهم الذي خالفني الرأي فتعالت أصوات القهقهة في المدرج.

 

لست في حاجة لاستكمال القصة لتتبع أثر هذا الموقف على نفوس كل من قد تحدثه نفسه من الطلاب أن يختلف مع أستاذه في المدرج الجامعي. المهم هنا هو أن نعرف لماذا لا يستطيع الطالب أن يصنع مقلباً مشابهاً في أستاذه بالجامعة بعد أن كان يلاعب مدرس الثانوية على الحبال. الإجابة ببساطة: لأن تصميم القاعة من الداخل يحمي الأستاذ ويضع بينه وبين جماهير الطلبة حواجز، ويعطيه قدرة على احتكار رؤية جميع من في القاعة، في حين أن ظهره مؤمن بسبورة، علمه من سبقوه أنه حين يضطر للكتابة عليها فعليه أن يبقى جانباً من جسده في اتجاه الطلاب كي يتمكن من رؤيتهم. فضلاً عن السلطة الإلهية المطلقة في التحكم في الدرجات والإنجاح والترسيب.

 

أتذكر أستاذاً بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية رفض جلوس الطلاب على خشبة المسرح بعد أن ضاقت بهم مقاعد المدرج، بل نهرهم بشدة وعنف لفظي كي يجلسوا على الأرض في أي مكان آخر إلا مملكته الخشبية. وأقارن هذا بأنشطة التعليم غير الرسمي التي يتحلّق فيها المعلم أو الميسر مع متعلميه أو متدربيه في مكان مفتوح لا يأمن أحدهم على ظهره إلا بثقته في أعضاء الدائرة الذين قطعاً سيحذرونه من أي خطر قادم من خلفه، دون احتمالات للمقالب السخيفة، فلا مجال لها بوجود الثقة والتعاون والائتلاف.

 

الثورة والسلطة .. أشكال كثيرة ومفهوم واحد

 

الآن يمكن أن نفهم أن الثورة ليست فقط قصة كبرى، بل عدد غير متناهي من القصص الصغرى. قصة الأخ الذي يتحكم في مواعيد خروج أخته، وقصة الشاب الذي يترك خطيبته بسبب ابتزاز عاطفي من عائلته، كما هي قصة فريد شوقي – الفتوة – في سوق الخضار، وأمين الشرطة في القسم. هي قصة الجمسة (الغجر) ونسل العبيد في جنوب الصعيد، والهتيم بين قبائل بدو سيناء، والمشردين في شوارع المدن القاهرة سكانها. هي قصة معاق حركياً يريد أن يركب مترو الأنفاق فتلفظه سلالم المحطات وبوابات الدخول المصممة فقط لدخول المشاة الأصحاء. هي قصة المتشبث بجرار القطار الذي يختار المخاطرة بحياته في الهواء الطلق بديلاً عن دفع التذكرة لممثل الدولة – الكمساري – داخل إطار السلطة – عربة القطار. هي قصة التوكتوك الذي لن يحصل على ترخيص حكومي، وقصة عبور المشاة الذين ينظرون يمنة ويسرة قبل أن يعبروا في تحدٍ للإشارة  الحمراء حين تفقد معناها في وقت متأخر من الليل، غير عابئين بقوانين يفترض أن تكون قد وضعت لتسيير حياة الناس لا ليقدسوها.

 

الثورة مستمرة حتى تنجح. ولن تنجح الثورة إلا بتركيع المؤسسات تحت أقدام إنسانية الشعوب، فينفتح المسرح على الشارع، ويعزف الجمهور موسيقاه، ويؤدي المشاهدون أدوار البطولة. لن تنجح الثورة إلا حين يصير التلميذ المتلقي متعلماً نشيطاً فعالاً، ويعرف الأستاذ أنه شريك في التعلم مع طلابه. لن تنجح الثورة إلا حين يكتب القاريء نصه، ويخرج المشاهد فيلمه، ويصنع الناس إعلامهم، ويبني الزائرون متاحفهم ومعارضهم.

 


أضف تعليق