النكاح السياسي في مصر .. الحراك السياسي سابقاً

ربما كان المصريون معتادين على مسلسل الانتخابات الهزلي الذي يقوم على إنتاجه وإخراجه النظام المصري كل بضعة أعوام، سواء اتخذ شكل انتخابات برلمانية لمجلسي الشعب والشورى، أو انتخابات رئاسية يفوز فيها مرشح الحزب الحاكم من بين بضعة مرشحين اعتمد ترشيحهم جهاز أمن الدولة المصري، الذي هو البوابة الرئيسية لأي مرشح مصري لأي منصب كان، بدءًا من رئيس الوزراء وحتى المواطن السوهاجي الذي احتسى في بيته الرئيس حسني مبارك كوباً من الشاي “الصعيدي التقيل” على حد وصف وسائل الإعلام المختلفة.


من مقتطفات انتخابات 2005 البرلمانية - الصورة لوكالة الأنباء الفرنسية

 

عبد الرحمن محمود

وربما كانت مصر تشهد أيضاً ما اعتاد الإعلاميون، ومن ورائهم المثقفون والسياسيون أن يصفوه بأنه حراك سياسي منذ عام 2000، خاصة عندما شهدت مصر أول انتخابات برلمانية تحت الإشراف القضائي الكامل، ومن بعدها بدأت العملية السياسية المصرية تنحو منحىً جديداً كل الجدة. وكان من وراء ذلك عدة عوامل، ليس أولها ظهور مشروع التوريث الذي أصبح جلياً للعيان مع إظهار – ولا أقول “ظهور” – نجم جمال مبارك،  نجل الرئيس المصري، على المسرح السياسي للحزب الحاكم، وتوليه مسؤولية أمانة السياسات، التي تم تفصيلها لتكون مهد التحولات الجديدة التي ينتظر أن يفجرها  مهدي الحزب الوطني المنتظر، فشهدت مصر ربما لأول مرة ذلك التزاوج الفج بين المال والسلطة على يد العديد من حواريي المهدي المنتظر من رجال الأعمال المنخرطين في الوزارات والمناصب التنفيذية.

وفي المقابل أدى التطور التكنولوجي وانتشار وسائل الاتصال غير التقليدية إلى سهولة تداول المعلومات، بل الصور والتسجيلات التي تؤدي – ليس فقط إلى فضح ممارسات النظام الحاكم القمعية والإرهابية في كثير من الأحيان – بل أيضا إلى حشد الدعم الإعلامي الضخم خلف الكثير من تلك القضايا، وإجبار النظام على أن يخطو خطوة للخلف، لمراجعة استراتيجيته في مواجهة تلك الآلة الجبارة التي لم تكن في حسبانه، والتي لا تصل إليها عصاه الغليظة إلا في أضيق الحدود. ومن الجدير بالذكر أن التطور التكنولوجي الهائل في وسائل الاتصال وتداول امعلومات، أدى بالضرورة إلى إنشاء “مجتمع بديل” من حيث النشأة وسقف الحرية، بل الإمكانيات المتاحة من خلاله، أدت بدورها بالضرورة إلى نشوء حالة من الفوضى اختلط الخلاق فيها بالهدام، ولم تتبلور بعد معالمها النهائية من حيث نتائجها المباشرة على مصير المجتمع.

كل ذلك أدى بالضرورة إلى تغيير جذري في التركيبة السياسية للمجتمع المصري، فبعد أن كان العاملون في الحقل السياسي المصري يقتصرون على الأحزاب الرسمية بما فيها الحزب الحاكم، وجماعة الإخوان المسلمين المحظورة قانوناً، اشتعلت الحياة السياسية كالنار في الهشيم بنشأة الكثير من الحركات والجبهات، والتشكيلات غير المندرجة تحت أوصاف قديمة بعينها، وانخراطها مع المجتمع في بؤر الصراع المختلفة، التي تتأثر وفق محيط المجتمع السياسي من فترات سخونة واندلاع إلى فترات برود وانقشاع، فمن 6 أبريل إلى 4 مايو إلى جبهة التغيير إلى شباب من أجل التغيير إلى كفاية إلى غيرهم من الحركات التي أحدثت دوامات في الشارع المصري، والتي اعتمدت على بعض الأحداث الساخنة في تجييش الشارع، أو على الدقة استهداف الشارع المصري الذي غاب منذ عقود عديدة عن العمل المدني والسياسي.

 

هل ألقت التغييرات الجذرية بظلالها على الجماعات القديمة؟


بقيت في المجتمع المصري كعادتها الأحزاب السياسية بما فيها الحزب الحاكم ترفل في أتون السلطة والمعارضة المدجنة المحسوبة بدقة، لإبقاء الوضع كما هو عليه، أو كما يريده أصحاب الشأن وأصحاب الوصاية على هذا المجتمع الخرب، وكلما كان أحد الأحزاب المعارضة يخرج عن الدور المرسوم له، كلما تدخلت أيدي الأمن الرحيمة بأبناء ذلك الحزب، لتعيد الأمور إلى سيرتها الأولى، رحمة بأبنائه من أن ينالوا مصير أيمن نور المظلم في غياهب السجون. وبغض النظر عن بعض المحاولات البائسة، ظلت الحياة السياسية الرسمية في مصر على حالها من اقتسام كعكة الدولة، بركات النظام الحاكم، حتى لو كان ذلك عن طريق تلميع بعض الأحزاب المعارضة، وتجهيزها لتحل محل “الجماعة المحظورة” التي ربما حان الوقت لأن تخرج من إطار الصورة حيث أن العلاقات المصرية الأمريكية لا تحتاج إلى رقة الضغط المتمثلة في الجماعة الدينية المتطرفة المتوغلة بين المصريين، والتي سوف تقطع دابر العلاقات المصرية الأمريكية إذا ظلت هذه الأخيرة تندد بدكتاتورية النظام المصري.

وعلى ذلك، خرج علينا حزب الوفد في ثوبه الجديد بعدد من الإعلانات مدفوعة الأجر على الفضائيات، وكثير من المنضمين له من النخب المدجنة المستفيدة بالحضور السياسي والإعلامي المصوب نحو الحزب، وأصبح المأثور عن الأحزاب السياسية هو الرغبة في التمثيل المشرف، فكل حزب يسعى لأن يكون له عدد من الممثلين في المجالس النيابية لكي يكون له مرشح لرئاسة الجمهورية وفق التعديل الدستوري الجديد، يمكنه من المشاركة في المهرجان الاحتفالي اللذيذ الذي أنعم عليهم به الرئيس المصري بعد تعديل الدستور، ليكون الرئيس المصري بالانتخاب وليس بالاستفتاء.

 

ماذا عن جماعة الإخوان المسلمين؟

ربما كانت الجماعة في مصر هي الأكثر إثارة للجدل في تاريخ مصر المعاصر، فهي جماعة مستنفرة في حالة دائم من الصراع منذ نشأتها سواء مع نظام الاحتلال أو نظام الثورة أو نظام الانفتاح أو نظام التوريث.

 

إلا أن الناظر لحال الجماعة اليوم، بغض النظر عن التحليلات الموغلة في العمق التي ليس هذا محلها أو مقامها، يجد أن من الواضح بمكان أن أجندة الجماعة في مصر لا تعبر بجلاء عن واقع وطموحات وآمال الشارع المصري. ربما هناك كثير من التبريرات والأعذار، أو مناطق الاختلاف في تقييم مواقف الجماعة واستراتيجياتها، إلا  أنه لا يمكن إلا الجزم بأن مصالح الجماعة ربما تدفعها للكثير من الاختيارات التي تبعدها شيئاً فشيئاً عن صحيح التمثيل السياسي للشارع المصري، فقد أسفرت الحقبة السياسية الأخيرة عن كثير من الانتفاضات الشعبية العمالية بل الفئوية المختلفة التي أحجم الإخوان عن دعمها وتأييدها، فضلاً عن المشاركة بها، مما أكد الانطباع بأن أجندة هؤلاء القوم ربما تكون متقاطعة مع أجندة الشارع المصري، ولا أقول النخبة المصرية.

يزيد من ذلك ما بدأت بوادره تظهر إلى العلن مع زيادة الانفراجة الإعلامية، التي طالت فيما طالت الإخوان المسلمين، بالرغم من تكتمهم وحيطتهم الشهيرة المدفوعة بالحصار الأمني للجماعة، والتي أسفرت عن ظهور الكثير من الخلافات المتكتم عليها للعلن، وليس أول ذلك ما أعلن عنه بعض قياديي الجماعة من تأكيد التنسيق الأمني بين النظام “متمثلاً في أجهزة الأمن” وبين الجماعة في الانتخابات التشريعية المصرية عام 2005، ومهما كان حظ تلك التسريبات والتصريحات من الصحة، فإن موقف الجماعة برمته من الحالة السياسية المصرية إنما يُظهر بجلاء كيف تحول الحراك السياسي في مصر من حالة سياسية إيجابية تتفاعل من خلالها النخب السياسية المختلفة مع الشارع المصري، لتدشين رؤيتها، وإعلاء رايتها، إلى حالة حراك مستمر في دائرة مغلقة، ليس مركزها بالتأكيد الشارع المصري، وما يموج به من غليان وسخط على النظام الحاكم، ولا نتجاوز إذا تصورنا أن ذلك الحراك إنما قد يعبر عن سيرك قومي كبير اعتاد النظام المصري على نصبه كل فينة وأخرى لتجميل أو تشريع، أو تجديد صورته القائمة، ولا يعدو أن يكون الوضع السياسي بهذا الحال مجرد ما اصطلح المصريون على تسميته “تباديل وتوافيق” أو “سد خانات” من أجل تحقيق المصلحة القومية الكبرى كما يرصدها النظام الحاكم.

ولا شك أنه في ظل مثل تلك المعمعة يمكننا الجزم بأن جميع الفاعلين على الساحة السياسية المصرية، وبغض النظر عن الحكم على النوايا والدواخل، قد جانبهم الصواب في السقوط في فخ ما نجح النظام في حياكة ثوبه، وهو البحث عن الرسمية، فجماعة الإخوان لاتزال حتى تلك اللحظة، ومنذ عشرات السنين، تبحث عن مقاعد مجلس الشعب باعتبارها التحدي الرئيس للنظام الذي يدعي أنها جماعة محظورة، ويحظر عليها العمل السياسي أو الانخراط في المنظومة الحزبية. وبذلك المنظور تكون الجماعة قد سقطت في الفخ عن جدارة، ويكون النظام قد نجح في تصفية القوة الرئيسية للإخوان المسلمين المتمثلة في شرعيتها النابعة من الجماهير، حيث أنه من المعلوم بالضرورة في الحياة السياسية المصرية، أن أعضاء المجالس النيابية، لا يمثلون الشعب المصري في شيء.


وإذا كان أيضا من المعلوم من الحياة السياسية بالضرورة، أن الحزب الحاكم لن يسمح بالتفريط في أغلبية الثلثين التي تعطي له الحق في التحكم الكامل في مصير المنظومة الدستورية والتشريعية في مصر، فإنه ينبغي على أي شخص صادق، أو حتى منطقي، في رغبته في إدراك التغيير السياسي، هو أن ينازع الحزب الحاكم في تلك الأغلبية على الأقل، فيسعى للسيطرة على ما هو أكثر من ثلث المجلس التشريعي، وهو الثلث المعطل، كما يصطلح على تسميته السياسيون. ورغم ذلك فإننا نرى أن جماعة الإخوان المسلمين عندما تنزل إلى مثل تلك المعتركات الانتخابية ترشح عدداً أقل من أن يعطي لها، أو حتى للمعارضة المصرية بصفة عامة، ذلك الثلث في حالة نجاح جميع مرشحيها، وهو اللغز الذي لا نستطيع حياله أن نحسن الظن في أجندة، أو على الأقل استراتيجية، الجماعة ومنطقها.


النجمة السداسية للوضع السياسي المصري؛ بين هرم الشرعية وهرم الرسمية

قد يعتقد الكثير من المهتمين بالشأن السياسي في صحة الافتراض المبدئي؛ أن كل ما هو شرعي هو رسمي بالضرورة، وأن العكس صحيح، فيكون كل ما هو غير شرعي بطبيعة الحال غير رسمي. وهذا المبدأ إن صح، إنما هو يقوم على أساس منطقي هو أن مصدر كل من الشرعية والرسمية واحد، وهو فيما يتعلق بالنظام السياسي يتمثل في عنصر الشعب، أو الإرادة الشعبية.

إلا أن تلك القاعدة لا يمكن إلا القول بعدم انطباقها على الوضع المصري الراهن، إذ أن مجرد التفير في سعي جماعة الإخوان المسلمين المحموم للظفر بعدد من مقاعد مجلس الشعب، بالإضافة إلى سعيها الحثيث لإدراك الرسمية في النظام السياسي المصري، ما هو إلا محض وهم يشف عن أن النظام المصري نجح بجدارة في التأثير على خصومه والإيحاء لهم بأن الحلبة الرئيسية للصراع، متمثلة في تبوء مكانة في هرم الرسمية في النظام المصري. ذلك الهرم الذي تقوم عليه مؤسسات النظام المصري، وتشمل فيما تشمل:  مؤسسات الرئاسة، والبرلمان، والأحزاب وغيرها. وعلى ذلك الأساس يكون الإخوان المسلمون أعلى مكانة في هرم الرسمية من غيرهم من الأحزاب نظرا لتمكنهم من حصد ثمانية وثمانين مقعداً من مقاعد البرلمان المصري في عام 2005، وهي المكانة التي أعطت للجماعة حصانة بدرجة معينة، ومكانة سياسية تجعلها ربما أعلى قدرا ومكانة من بقية القوى السياسية، مما ترفض معه الجماعة بشدة أن تفرط فيه في الانتخابات المقبلة. ومهما كان من أمر مكانة الإخوان المسلمين في هرم الرسمية الوهمي الذي شيده النظام المصري، وأوقف على عتباته حراسه الأوفياء من أساطين الحزب الحاكم، إلا أنه لا مفر من القول بأن ذلك الهرم، ما هو إلا هرم مقلوب يتقاطع بالكلية مع هرم الشرعية الواقعي الضارب بأطنابه في جذور هذه الأرض. وهرم الشرعية في مصر لا يعدو أن يكون متمثلاً في رغبات أبناء ذلك الوطن في الخروج من نير المستعمر الوطني كما خرج من قبل من نير المستعمر الأجنبي، وتتكون قاعدته من الملايين العريضة من أبناء هذا الوطن من المطالبين بالحرية، والديمقراطية والإصلاح والتغيير.

وبالتالي فإن هرم الشرعي المصرية يكاد يكون منعدما “في اتجاه قمته” كلما ترسخ وتأيد هرم الرسمية الوهمي الموحى به من قبل النظام المصري، وفي المقابل، يكون هرم الرسمية في أ>نى شرعيته عن عموم الشعب المصري، اللامنتمي إلى النظام الرسمي، الذي حول أسماءهم إلى مجرد أرقام في كشوف الناخبين يتم ملؤها بمعرفة مخبري أمن الدولة، أو أصحاب المصالح مع النظام.


النكاح السياسي على مذهب النظام الحاكم

 

وبين هؤلاء وأولئك، تفرق دم الشعب المصري، بين مجموعة من النخب التي التبستها مسوح الرسمية، وأسكرتها دماء الشهداء، فصاروا يقفزون من معركة إلى معركة، ويخرجون من ساحة إلى ساحة، من انتخابات لمجلس الشعب، إلى أخرى للشورى، إلى ثالثة للرئاسة، ولا بأس أن تكون بينها أخرى نقابية أو محلية، إلى آخر ذلك من المعارك الوهمية.


وعلى مذهب النظام الحاكم، يختلف فقهاء الحياة السياسية المصرية، على إحدى مواد الدستور، وتدور بينهم السجالات والنقاشات، ويسيل الحبر أنهاراً، وتتأهب الصحف لنقل وقائع اليوم المشهود، وتختلف النخب، وينشغل الإعلام، وتدور رحى الدعاوى القضائية، والمحاكم الفضائية، مرة بين الإخوان والحكومة، ومرة بين الأحزاب بعضها مع بعض، ومرات عديدة داخل الحزب الواحد، فتفتت الحياة السياسية إلى جزر منعزلة، في بحر عميق من الخواء والعدمية. وتناسلت القضية الواحدة إلى قضايا عديدة، متفرقة متمتفاوتة، وتأطرت القوى السياسية في نكاح أزلي على مذبح النظام الحاكم، الذي وقف بعيدا عنهم، يسبقهم بخطوات، يتلو عليهم، قواعد اللعبة، وشروط المرحلة القادمة.


الحلقة القادمة: المؤسسات الموهومة للدولة المصرية: مؤسسة القضاء 1-1

2 Responses to النكاح السياسي في مصر .. الحراك السياسي سابقاً

  1. musab كتب:

    ارسلولي مشاركاتكم رجاءا

أضف تعليق